حذر تقرير اقتصادي صدر عن مركز بحثي في بريطانيا من أن يؤدي المزيد من التصعيد في منطقة الشرق الأوسط والحرب في غزة إلى نتائج كارثية على الاقتصاد العالمي، مشيرا إلى أن المعطيات الحالية للأحداث تؤشر إلى احتمال توسع نطاق العمليات العسكرية لتشمل دولاً أخرى، مثل لبنان وسورية، خصوصاً مع التطورات الأخيرة في الجبهة الشمالية لإسرائيل.
وأورد التقرير، الصادر بإشراف مدير البحوث الاقتصادية بالمركز العالمي للدراسات التنموية في لندن صادق الركابي، أنه في حال مشاركة حزب الله اللبناني في المعارك الحالية بكامل ثقله، فإن ذلك يعني مشاركة المزيد من الجماعات المسلحة الأخرى في كل من سورية والعراق واليمن، وامتداد الحرب إلى دول أخرى، ما ستكون له نتائج كارثية على اقتصاد المنطقة.
وأشار التقرير، الذي تلقى "العربي الجديد" نسخة منه، إلى أن تحول الحرب إلى النطاق الإقليمي يهدد بتأخر العديد من المشروعات المهمة في الشرق الأوسط، كالممر الاقتصادي الممتد من الهند عبر دول الخليج، إلى البحر المتوسط، وكذلك خطط العراق في مشروعي "طريق التنمية" و"ميناء الفاو"، الذين يعول عليهما في دعم اقتصاده وتعزيز مكانته في قطاعي التجارة والنقل الدوليين.
الاقتصاد الإسرائيلي
وبحسب التقرير، فإن خسائر الاقتصاد الإسرائيلي تتجاوز 8 مليارات دولار، وذلك بالنظر لحجم القطاعات الاقتصادية الواسعة التي تضررت بسبب الأحداث الجارية في غزة، خاصة قطاع الموانئ، الذي تراجع نشاطه بشكل واضح، خاصة مع إغلاق ميناء عسقلان وتشديد الإجراءات على السفن الداخلة إلى ميناء أسدود، وقد رفع هذا الأمر من كلف التأمين على السفن التي اختار بعضها تغيير مسار رحلاتها البحرية بعيداً عن مناطق الخطر.
وإذا ما استمرت المعارك أكثر من 10 أيام، فقد تشهد الأسواق المحلية في إسرائيل ارتفاعاً في الأسعار وتراجعاً أكبر في قيمة الشيكل، بحسب التقرير، الذي لفت إلى أن تدخل بنك إسرائيل المركزي حال دون انهيار الشيكل إلى مستويات كانت ستؤدي لخسارة وإفلاس العديد من الشركات، خصوصاً بعد موجات البيع الكبيرة التي شهدتها البورصة الإسرائيلية وتراجع أداء العديد من المصارف، محققة خسائر تقدر بـ10% على أقل تقدير.
وكذلك كان الأمر بالنسبة لشركات التكنولوجيا التي تعمل في مجال البحث والتطوير، حيث يقع بعضها في مناطق قريبة من حدود غزة، ما أجبرها على التوقف عن العمل، بحسب التقرير، الذي أورد أن قرابة 10% من موظفي تلك الشركات جرى استدعاؤهم للقتال في صفوف القوات الإسرائيلية، ما استوجب تأخراً في إنتاجيتها وتراجعاً واضحاً في إيراداتها.
إذا استمرت المعارك لأكثر من 10 أيام فقد تشهد الأسواق المحلية في إسرائيل ارتفاعاً في الاسعار وتراجعاً أكبر في قيمة الشيكل
أما قطاع الطاقة في إسرائيل، فتلقى ضربة كبيرة، لا سيما أن صادرات الغاز من حقل تمار، وهو أكبر الحقول الإسرائيلية، قد توقفت لـ"أسباب تتعلق بالسلامة".
ويلفت الركابي إلى أن تطورات كهذه ستكون لها انعكاسات سلبية على إيرادات الموازنة، التي يتوقع المركز العالمي للدراسات التنموية أن تشهد اتساعاً في النفقات، وخاصة في مجال الدفاع والأمن، بالإضافة لارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في العام القادم 2024.
ويترافق ذلك مع انخفاض واضح في عائدات السياحة في إسرائيل، التي ارتفعت العام الماضي لتبلغ قرابة 3.5 مليارات دولار بعد ارتفاع أعداد السياح إلى قرابة 2.8 مليون سائح، بعد أن كانت عند مستوى 400 ألف سائح في العام 2021.
الاقتصادات العربية
ويشير التقرير إلى ارتباط مصالح بعض الدول العربية بقطاعات اقتصادية في إسرائيل، ما يعرضها لخسائر مستقبلية في حال استمر الصراع مدة طويلة.
والدول القريبة من إسرائيل، كالأردن ومصر، ربما تعاني من موجات نزوح كبيرة، تستوجب دعماً مادياً كبيراً لمساعدتها في تخفيف الأعباء الاقتصادية على موازناتها المنهكة أصلاً بالديون وارتفاع النفقات.
وتعول مصر على استلام شحنات الغاز من إسرائيل إلى محطات الإسالة لديها ومنها إلى الأسواق العالمية، إلا أن أحداث غزة ستجعلها مضطرة لقبول خفض قريب في الكميات المسلمة لها من حقل ليفياثان بعد توقف حقل تمار عن الإنتاج.
كما تتأثر الدول العربية الأخرى التي لديها استثمارات واتفاقيات مشتركة مع إسرائيل بما يجري، حيث تمتلك بعض شركاتها حصصاً في حقول الغاز الإسرائيلية، ما قد يتسبب لها بخسارة في الإيرادات.
وتصدر إسرائيل العديد من السلع الزراعية إلى الأسواق العربية، يليها بعض السلع التقنية، حيث يتم ذلك إما بشكل مباشر أو عن طريق دول أخرى، من خلال إزالة عبارة "صنع في إسرائيل"، وشهد حجم تلك الصادرات إلى الدول العربية خلال عامي 2021 -2022 ارتفاعاً من 900 مليون دولار إلى 3 مليارات، معظمها في مجال الدفاع والأمن.
خسائر المقاطعة
ويقدر المركز العالمي للدراسات التنموية الخسائر المتوقعة للاقتصاد الإسرائيلي في حال ارتفعت وتيرة المقاطعة للسلع والمنتجات الإسرائيلية حول العالم بـ20 مليار دولار سنوياً، نصفها في أسواق الاتحاد الأوروبي فقط، مع خسارة 63 ألف موظف في المصانع والمزارع الإسرائيلية وظائفهم.
وقد يتسبب تصعيد العمليات العسكرية ضد المدنيين في إلغاء بعض الشركات اتفاقياتها التجارية مع عدد من الشركات الإسرائيلية، أو استبدالها بشركات أخرى، ما يعمق من خسائر الاقتصاد الإسرائيلي.
يقدر المركز الخسائر المتوقعة للاقتصاد الإسرائيلي في حال ارتفعت وتيرة المقاطعة للسلع والمنتجات الإسرائيلية حول العالم بـ 20 مليار دولار سنوياً
ويقدر المركز خسائر الاقتصاد الإسرائيلي جراء حملات مقاطعة الشركات والسلع والخدمات الإسرائيلية إلى قرابة 90 مليار دولار خلال الفترة من 2013 إلى 2023.
ويشير التقرير إلى تراجع في الاستثمار الاجنبي المباشر في إسرائيل بـ34% في الربع الأول من هذا العام 2023 مقارنة بمتوسط نفس الفترة من عامي 2020 و2022، مع انخفاض في عدد المستثمرين الأجانب، حيث تمكن الاقتصاد الإسرائيلي من اجتذاب 2.6 مليار دولار فقط.
كما تراجعت عمليات الاندماج والاستحواذ بنسبة 80% في ظل تسريح كبير لعدد من الموظفين في قطاع التكنولوجيا، وهو القطاع الأبرز في الاقتصاد الإسرائيلي.
أسعار النفط
ويلفت التقرير إلى زاوية اقتصادية أخرى للخسائر الاقتصادية تتعلق بأسعار النفط، فاستمرار أمد الحرب في فلسطين المحتلة من شأنه أن يغير طريقة تعاطي إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مع الشرق الأوسط، وقد تتخذ إجراءات أكثر تشدداً مع إيران.
وأشار إلى أن ذلك قد يؤدي لرد إيراني باعتراض ناقلات النفط في الخليج العربي واستهدافها، ما يعرقل حركة الملاحة وتجارة النفط في مضيق هرمز، وارتفاع أسعاره إلى مستويات تفوق 120 دولاراً للبرميل.
ويشكل هذا الأمر ضغطاً كبيراً على بايدن قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية، خصوصاً مع وعوده لناخبيه بخفض فاتورة الطاقة والوقود، كما يمثل ضغطا على الدول الحليفة للولايات المتحدة في الاتحاد الأوروبي، التي تعاني من ارتفاع أسعار الطاقة وانقطاع إمدادات الغاز الروسية من دون وجود البدائل المناسبة والمضمونة لتحقيق أمن الطاقة.
وبحسب التقرير، فسيكون لذلك أثر سلبي واضح على الاقتصاد العالمي مع ارتفاع غير مسبوق في أسعار الوقود، خصوصاً في كل من أوروبا والولايات المتحدة، الأمر الذي سيزيد من العبء الاقتصادي على المستهلكين، ويطيح كل الجهود التي بذلتها البنوك المركزية حول العالم لدعم النمو والحد من التضخم، ما قد يضطرها للاستمرار برفع أسعار الفائدة.
وفي حال اتساع نطاق الحرب لتشمل دولاً أخرى، فعندها سيكون سيناريو ارتفاع أسعار النفط كارثياً على الجميع، بحسب التقرير الذي يتوقع أن يؤدي ذلك لحالة من الخوف في أسواق الطاقة ونقص حاد في الإمدادات، ما يوقف العديد من المصانع في الأسواق العالمية عن الانتاج أو يجبرها على تخفيضه.
معدلات النمو
وقد تؤدي حالة اللايقين لدى الكثير من المستثمرين إلى ارتفاع عائد السندات وارتفاع مستويات الدين العام، الأمر الذي يعتبر مرهقاً للكثير من الدول والشركات حول العالم، ومن شأن ذلك أن تكون له انعكاسات على ارتفاع معدلات البطالة، وعدم القدرة على سداد الديون، سواء على مستوى الأفراد أو الشركات، ما يؤثر سلباً على قطاع المصارف وأسواق المال حول العالم، بحسب التقرير.
كما يؤثر ذلك على حركة السلع وسلاسل الإمداد وارتفاع أسعار المواد الخام والمواد الغذائية، الأمر الذي ستكون له نتائج كارثية على الدول الفقيرة.
في حال اتساع نطاق الحرب لتشمل دولاً أخرى فعندها سيكون سيناريو ارتفاع أسعار النفط كارثياً على الجميع
وفي هذا الإطار، يقرأ الركابي إرسال الولايات المتحدة حاملة الطائرات جيرالد فورد كرسالة ردع لمنع توسع نطاق الحرب ودخول أطراف جديدة في دائرة الصراع، خاصة مع إظهار الاقتصاد الأميركي مرونة كافية وقوة واضحة أبقت معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي فيه عند مستويات جيدة نسبياً، حيث بلغ معدل النمو 2.1%.
لكن المخاوف لا تزال قائمة بشأن نشوب حرب واسعة ستكون لها انعكاسات خطيرة على اقتصاد الولايات المتحدة، الذي ما لبث أن بدأ يشهد تراجعاً في نسب التضخم، بحسب التقرير، الذي أورد أن الاقتصاد العالمي سيكون ضحية لارتفاع التضخم مرة أخرى في حال اتساع نطاق الحرب وارتفاع أسعار النفط.
ويتوقع المركز العالمي للدراسات التنموية أن يتسبب ذلك في تراجع معدل النمو هذا العام إلى 2.7%، في حين سيكون عند مستويات 2.6% في العام القادم، وهو أقل من التوقعات التي أشار إليها صندوق النقد الدولي، وهي: 3% هذا العام و2.9% العام القادم.
آسيا وأوروبا
وستكون الأسواق الآسيوية في وضع صعب، بحسب التقرير، خاصة أنها تعتمد بشكل كبير على واردات الطاقة من الشرق الأوسط ولديها العديد من الاستثمارات في أسواقه، لذا يتوقع المركز العالمي للدراسات التنموية أن يؤدي مزيد من التوتر إلى تراجعات حادة في أسواقها وارتفاع في كلف المواد وحالة من الذعر في صفوف المستثمرين.
أما الأسواق الأوروبية، فمن المتوقع أن تكون متأثرة لدرجة كبيرة بما يجري في الشرق الأوسط، خاصة أن أكثر من 20 شركة استثمارية في إسرائيل لديها محافظ استثمارية وصناديق ائتمانية في أوروبا ستشهد تراجعات ملحوظة.
كما أن أوروبا لا تزال تعاني من ضعف أسواقها الناجم عن الحرب في أوكرانيا وارتفاع تكاليف الطاقة والبحث عن بدائل للغاز، بحسب التقرير، الذي لفت إلى أن استمرار الحرب في غزة واتساع نطاقها يعنيان زيادة المخاطر الأمنية التي ستؤثر في الاقتصاد لأوروبي، وقد تدخله في حالة من الركود مع تراجع الصادرات وارتفاع كلف الاستيراد وتراجع الانتاج الصناعي وثقة المستهلكين.
ويتوقع التقرير أن يشهد معدل النمو في الاقتصاد الأوروبي هذا العام 2023 تراجعاً إلى مستوى 0.6%، وهو أقل من التوقعات التي جرت مراجعتها في وقت سابق، والتي توقعت أن يصل إلى 0.8%.
أما على صعيد الشرق الأوسط، فيتوقع التقرير أن تشهد نسب النمو تراجعاً ملحوظاً لمستوى أقل من 2%، لا سيما أن تبعات جائحة كورونا وبعض الكوارث البيئية وارتفاع مديونية بعض الدول لا تزال تلقي بثقلها على اقتصاد المنطقة، مشيراً إلى ضرورة توقف الصراع والبدء بمسار عملية تنموية شاملة تحقق السلام والأمن للمنطقة والعالم على حد سواء.