يعد الدولار أو "الورقة الخضراء" كما يطلق عليه المضاربون في سوق الصرف العالمي من بين أهم الأدوات في بناء مركز القوة العظمى للولايات المتحدة منذ أفول شمس الإمبراطورية البريطانية في منتصف القرن الماضي وبناء النظام العالمي النقدي والعالمي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ يلعب الدولار الدور المهيمن على مسارات توجه المال والمصارف والبورصات والسلع وأسواق الصرف العالمية. كما يمنح الدولار الولايات المتحدة القوة على تمويل العجز في الميزانيات وإصدار السندات والإنفاق على بناء قوتها العسكرية ودعم الدول التي تناصرها وضرب اقتصاديات الدول التي تعاديها، وذلك بما يتوفر له من ميزات دولية في تسوية الصفقات والإصدارات العالمية والتمويل المصرفي.
ومع قرار مجلس الاحتياط الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي" لرفع الفائدة الكبير والسريع منذ بداية العام الجاري يلاحظ أن العالم بات قلقاً من تداعيات الدولار القوي على مسار الاقتصاد العالمي والبورصات وأسعار السلع وعملات الدول واستقرارها السياسي.
وبغض النظر عما إذا كان الفيدرالي سيرفع الفائدة بمعدل 0.75% أو بنسبة واحد في المائة في اجتماعه اليوم الأربعاء وغداً الخميس، فإن الاقتصاد العالمي والبورصات الدولية تهتز ومتخوفة من مسار الدولار. ويمكن النظر إلى مجموعة عوامل رئيسية تعكس دور الدولار في النظام المالي والنقدي والاقتصادي ودوره في بناء "مركز الدولة العظمي" للولايات المتحدة.
وهذه العوامل، وفق محللين وخبراء اقتصاد في بنوك استثمار عالمية كبرى، هي، أولاً، هيمنة أميركا على أسواق المال والمصارف ودور الدولار في إصدارات الديون السيادية التي تكتتبها دول العالم لتمويل العجز ودور الفائدة الأميركية في تحديد كلف خدمة أقساطها وتسديدها، إذ إن معظم السندات السيادية العالمية تصدر بالدولار، وبالتالي كلما ارتفع سعر الدولار زادت معاناة الدول مالياً وتراجع حجم احتياطاتها بالبنوك المركزية.
في هذا الشأن تشير بيانات معهد التمويل الدولي في واشنطن إلى أن ارتفاع الدولار يجعل الديون التي أخذتها الحكومات وشركات الأسواق الناشئة بالدولار أكثر كلفة لسدادها.
وحسب المعهد، لدى حكومات الأسواق الناشئة ديون تقدر قيمتها بنحو83 مليار دولار تستحق السداد بحلول نهاية العام المقبل.
من جانبه يقول بنك التسويات الدولية الذي يوجد مقره في بازل بسويسرا في تقرير منتصف أغسطس/ آب الماضي إن حجم السندات السيادية غير الأميركية في العالم بلغ 2.9 تريليون دولار خلال العام الجاري، وغالبية هذه السندات تم إصدارها بالدولار. ولاحظ بنك التسويات أن سوق السندات الحكومية والشركات توسعت في الآونة الأخيرة مع تزايد حاجة الدول لتمويل العجز في الميزانيات بسبب جائحة كورونا وغلاء أسعار الغذاء والنفط والغاز الطبيعي.
من جانبه يقدر مصرف "مورغان ستانلي" الأميركي حجم سوق السندات العالمية بنحو 100 تريليون دولار بنهاية العام الماضي، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد الأميركي والأوروبي، وتبلغ حصة سوق السندات الأميركية منها نحو 41%.
وحسب بيانات اتحاد البورصات والأوراق المالية الأميركي الذي يعرف اختصاراً بـ "سيفما" فإن حجم سوق السندات الأميركية يقدر بنحو 46 تريليون دولار. وبالتالي فإن الفائدة الأميركية ترفع تلقائياً قيمة الدولار وتدفع الدول لزيادة حاجتها إليه وطلب الحكومات المساعدة من الإدارة الأميركية، سواءً كان ذلك بشكل مباشر على القروض أو بشكل غير مباشر عبر مساعدتها في الحصول على ضمانات مصرفية أو عبر تسهيل قروض ومعونات من صندوق النقد أو البنك الدولي. وهذا العامل يدعم هيمنة واشنطن على دوائر صنع القرار العالمي سواء السياسي أو الاقتصادي والمالي.
في هذا الصدد يقول رئيس أبحاث الأسواق الناشئة بمؤسسة "أكسفورد إيكونوميكس"، جابرييل ستيرن: "إذا ساهمت زيادة الفائدة الأميركية الجديدة في حدوث مزيد من ارتفاع قيمة الدولار، فسيكون ذلك بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للأسواق".
ويضيف أن الاقتصادات العالمية دخلت إلى نقطة التحول الفعلي من المعاناة نحو الأزمة وأن آخر ما تحتاج إليه هو زيادة قوة الدولار.
من جانبه يقول الخبير الاقتصادي في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية" أنكتاد"، دانيال مونيفار: "عليك أن تنظر إلى قوة الدولار من منظور الميزانية". تصور أن الدول تدخل في عام 2022 بميزانية وفجأة تنخفض عملاتها بنسبة 30%، وبالتأكيد ستضطر على الأرجح إلى خفض الإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم للوفاء بمدفوعات الديون.
وبالتالي فإن قوة الدولار تعد من العوامل الحاسمة في هيمنة واشنطن على قرارات الدول التي تعاني من أزمات مالية بسبب انهيار عملاتها أو حدوث تراجع كبير في عملاتها المحلية مقابل الدولار.
ومنذ بداية رفع الفائدة على الدولار اتخذت البنوك المركزية العالمية في الأسواق الناشئة خطوات جذرية لكبح انخفاض قيمة عملاتها وأدوات الدين الحكومية من سندات وأذون خزانة، إذ رفعت الأرجنتين أسعار الفائدة الخميس الماضي إلى 75% مع سعيها للحد من التضخم المتصاعد والدفاع عن البيزو الذي فقد ما يقرب من 30% مقابل الدولار.
كما فاجأت غانا المستثمرين الشهر الماضي برفع أسعار الفائدة إلى 22% للدفاع عن عملتها التي تشارف على الانهيار.
وفي مصر تراجعت قيمة العملة بقوة وارتفع الدولار إلى أكثر من 19.45 جنيهاً مصرياً لأول مرة. وفي تركيا ذات القوة التصديرية الضاربة تراجعت العملة إلى أكثر من 18 ليرة مقابل الدولار. وتلقائياً يلاحظ أن قوة الدولار تدفع الدول نحو واشنطن وبالتالي تكرس الهيمنة الأميركية.
على صعيد حاجة الدول والشركات العالمية للأسواق الأميركية، فإن سوق "وول ستريت" تعد المهيمنة على البورصات وأسواق المال العالمية، حيث يمنحها الدولار وحاجة العالم للعائد بـ"الورقة الخضراء" ميزة تنافسية على البورصات الأخرى في كسب الإصدارات الكبرى للشركات في العالم".
ويقدر حجم البورصات العالمية بنحو 70 تريليون دولار، تأخذ منها سوق "وول ستريت" وحدها حصة 41%، حسب بيانات اتحاد البورصات والأوراق المالية الأميركية "سيفما".
وحسب بيانات الأميركية الرسمية ارتفع حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الولايات المتحدة في العام الماضي 2021 بنحو 506.1 مليارات دولار إلى 4.47 تريليونات دولار. كما ارتفعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال الربع الأول من العام الجاري بنحو 379.4 مليار دولار.
وهذا يعني ببساطة أن الثروات العالمية تتدفق نحو أميركا بسبب قوة الدولار والبحث عن "الملاذ الآمن" للثروات وسط الاضطراب الجيوسياسي في أوروبا. ويرى محللون أن هذه التدفقات الهائلة تمنح أميركا ميزة مالية واقتصادية واستثمارية على بقية العالم وتدعم تلقائياً مركزها التنافسي.
على صعيد استخدام الدولار في تعزيز النفوذ الأميركي في العالم وفرض هيمنة واشنطن على القرار العالمي يرى اقتصاديون أن أميركا تستخدم الدولار وأدواته المالية في فرض عقوبات مالية واقتصادية على الدول، حيث تتمكن واشنطن من حرمان الدول التي تعاديها من استخدام الدولار في التجارة العالمية وحرمانها من استخدام نظام سويفت للتحويلات المالية بين المصارف.
وبالتالي تتمكن واشنطن من توظيف الدولار لتعزيز هيمنتها على النظام المالي والنقدي وتحديد مسارات النفوذ الجيوسياسي العالمي.
ورغم محاولة الصين ذات الاقتصاد الكبير والنمو السريع لبناء نظام نقدي مواز للدولار، فإن الدولار وحسب بيانات مجلس الاحتياط الفيدرالي يحتفظ بحصة 60% من الاحتياطات العالمية التي تحتفظ بها البنوك المركزية العالمية من النقد الأجنبي، مقابل حصة ضئيلة لا تتجاوز 3% بالنسبة لليوان الصيني. ويواصل الدولار هيمنته على تجارة السلع الرئيسية مثل النفط والذهب وإلى حد ما الغاز الطبيعي الذي تسدد بعض صفقاته باليورو.