في ربيع العام الماضي، وبعد ظهور مأساة اعتماد البنك المركزي المصري على الأموال الساخنة في الحفاظ على احتياطي النقد الأجنبي في البلاد، والاستمرار في بيع الدولار بلا حساب، إلى السطح، وبالتزامن مع خروج أكثر من عشرين مليار دولار من تلك الأموال من سوق أدوات الدين المصرية عقب اندلاع حرب أوكرانيا، أصدر طارق عامر، محافظ البنك المركزي آنذاك، قراراً بالتوقف عن استخدام بوالص التحصيل، مع إلزام المستوردين بنظام الاعتمادات المستندية.
قرار عامر كان يهدف لتقنين عمليات الاستيراد، حيث يتم ربطها بتوفير الدولار من البنك للعميل، بكامل قيمة البضاعة المستوردة، بينما يسمح نظام مستندات التحصيل، الذي كان متبعاً على نطاق واسع، والذي تسبب في تضخم العجز التجاري في البلاد، ومن ثم في أزمة العملة الأجنبية التي نعاني ويلاتها حتى الآن، بتأجيل دفع المعادل الدولاري للبضاعة المستوردة لبعض الوقت، لما بين المستورد والمصدر الأجنبي من علاقة طيبة، لا يعترف بها نظام الاعتمادات المستندية.
ووفقاً لتقديرات بعض المتخصصين، فقد كان نظام مستندات التحصيل يسمح للمصريين باستيراد ما يعادل 200%-250% من قيمة ما بحوزتهم من عملة أجنبية، بينما يفرض نظام الاعتمادات المستندية استيراد ما يعادل ما يملكه المستوردون فقط، وربما أقل.
بعد الإعلان عن القرار، وقبل أن يبدأ تنفيذه الفعلي، ارتفعت الأصوات بالاعتراض عليه، من جهات عدة، كان في مقدمتها "جماعات الضغط" من المستوردين، الذين لا أعرف حقيقة مصدر قوتهم، في مواجهة واحد من القرارات القليلة الصحيحة المتخذة وقتها من أعلى جهة في البلاد منوطة بها مواجهة أزمة العملة.
استمرت الضغوط، على الرجل للعدول عن قراره، وعلى العملة المصرية، واتسع العجز الدولاري مع تعثر عمليات الاقتراض، أو بيع الأصول، أو جذب الاستثمارات الأجنبية، أو حتى الأموال الساخنة، فتأزم الموقف الاقتصادي المصري، وتم قبول استقالة طارق عامر، أو أقيل، في صيف العام الماضي، الذي لم ينته إلا وكان حسن عبد الله، المصرفي القدير، ذو الخبرات العريضة، ومنها ما يتعلق بتداول العملات، قد اختير للقيام بأعمال محافظ البنك المركزي.
جاء عبد الله وأغلب من في القطاع المصرفي يعرفون خلافاته الشديدة مع المحافظ المستقيل، فكان في مقدمة القرارات التي اتخذها الإلغاء التدريجي لقرار سابقه الخاص بفرض نظام الاعتمادات المستندية، والعودة إلى نظام مستندات التحصيل، بعد سبعة أشهر فقط من بدء تطبيقه.
منعت العودة للنظام القديم تقليص عجز الميزان التجاري، ومع احتدام الأزمة، تدافع الكثيرون على شراء العملة الأجنبية، وحول بعضهم أمواله للخارج، فتفاقمت الأزمة، وانهار الجنيه المصري أمام الدولار (تقريباً تضاعف سعر الدولار مقابل الجنيه المصري في أقل من عام)، وكان الأمر أشبه بالنيران الصديقة، التي تسببت في اغتيال الجنيه، بينما كان الغرض، كما يدعون، هو إنقاذه.
ومن عجائب الأمور، أن يخرج علينا رجل الأعمال الشهيرة، سليل الأسرة الشهيرة، فيتحدث عن معوقات الاستثمار في مصر، وهروب الاستثمارات إلى بلدان أخرى بسبب تردي المناخ الاقتصادي، ثم يفاجئنا بإعلان أن المتسبب في أزمة العملة الحالية هو نظام الاعتمادات المستندية، الذي تم فرضه "لمدة عامين"، فعطل الاستيراد، وقضى على استثمارات القطاع الخاص.
النيران الصديقة ظهرت مرة أخرى في الأجواء المصرية، حيث ازداد الحديث في الآونة الأخيرة عن ارتفاع أسعار الذهب في مصر بشكل مبالغ فيه، وبدأ الجميع يبحثون عن الأسباب، متجاهلين أن السعر العالمي للذهب يقترب حالياً من أعلى مستوياته على الإطلاق، وأن سعر الدولار مقابل الجنيه حالياً هو الأعلى الذي تشهده البلاد، وأن أغلب الذهب الموجود في السوق المصرية يتم استيراده.
هذا الثالوث دفع سعر المعدن النفيس إلى أعلى، وسيستمر في القفز به طالما بقي سعر الدولار على ارتفاعه في السوق الموازية، ومع استمرار تزايد التوقعات باقتراب خفض قيمة الجنيه رسمياً في الجهاز المصرفي. ويزيد من تعقيد الموقف، زيادة إقبال المصريين على شراء الذهب والمنتجات الذهبية، باعتبارها بديلا للعملة الأجنبية، مع تزايد المخاوف من الخفض المتكرر للعملة المصرية.
تجاهل المسؤولون أزمة العملة، المتسبب الرئيسي في ارتفاع سعر الذهب في مصر، وتحولوا إلى البحث في كيفية حل أزمة الذهب، في بلد يقترب نحو ثلثيه من النزول تحت خط الفقر، إن لم يكونوا قد نزلوا بالفعل، وفقاً لتقديرات البنك الدولي، ويكاد الملايين من أفراده يموتون جوعاً.
وبعد بحث وتقصٍ، خرج علينا رئيس الشعبة العامة للمصوغات والمجوهرات بالاتحاد العام للغرف التجارية، والذي كان ومازال هو وزملاؤه من أكبر المنتفعين من ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه في مصر، بفكرة عبثية، مفادها السماح للمصريين بإدخال الذهب، في حدود مبلغ معين، عند عودتهم من الخارج إلى البلاد، مع إعفائهم من دفع الرسوم الجمركية! وقال الرجل إن هذا الأمر كفيل بزيادة المعروض من الذهب في البلاد، ومن ثم تخفيض أسعاره.
لم يستغرق الأمر أكثر من 72 ساعة، حتى أصدرت الحكومة المصرية قرارها، وتم إعفاء الذهب من الجمارك، فانخفض سعره بالفعل، ولكن زاد الطلب على الدولار لشراء المعدن النفيس من الخارج، واشتغل المصريون "تجار شنطة" لأصحاب محلات الذهب، يشترون المعدن النفيس بمختلف أشكاله من الخارج، ليبيعوه لهم فور وصولهم، مستفيدين من فارق السعر، بينما لا يشغلون بالهم بما يسببه ذلك من زيادة عجز ميزان المدفوعات المصري، وبالتالي زيادة الضغط على الدولار، وزيادة موقف الجنيه تعقيداً.
نشتكي من زيادة الواردات وقلة الموارد الدولارية، فنلغي النظام المصرفي الذي يحد من الواردات ونقر النظام الذي يفتح باب الاستيراد على مصراعيه، ثم نشجع المواطنين على شراء الذهب من الخارج، ونلغي الرسوم الجمركية عليه، بدلاً من عودتهم بالدولارات التي نحتاجها في الداخل.
لا أعرف إن كان القائمون على الأزمة يريدون حلها أم تعقيدها، لكني أدعو الله أن يحمينا من أصدقائنا، أما أعداؤنا، فنحن كفيلون بهم.