نعامة الاقتصاد المصري

26 ابريل 2023
اعتمد البنك المركزي ووزارة المالية على الأموال الساخنة لسد عجز الحساب الجار ي (Getty)
+ الخط -

على الرغم من فقدان الجنيه المصري أكثر من 50% من قيمته أمام الدولار الأميركي خلال ما يقرب من عام، مازالت التكهنات تشير بوضوح إلى اقتراب تخفيض آخر للعملة المصرية، لا يتوقع أكثر المتفائلين أن تكون نسبة ارتفاع الدولار فيه أقل من 15%، وصولاً إلى سعر في حدود 35.5 جنيها للدولار.

تتجاهل نسبة الارتفاع المشار إليها أسعار الدولار في السوق الموازية غير الرسمية، وتتجاهل السعر الذي يتم من خلاله تسعير الذهب الخام للبيع في السوق المصرية، كما تتجاهل السعر الذي يمكن استنتاجه من خلال مقارنة سعر سهم البنك التجاري الدولي في البورصة المصرية وشهادات الإيداع المقابلة في بورصة لندن، وتتجاهل أيضاً سعر العقود المستقبلية غير القابلة للتسليم للجنيه مقابل الدولار.

يدور سعر الدولار مقابل الجنيه المصري في الأسواق التي أشرت إليها حول 40 جنيهاً للدولار، إلا أن كلاً منها لديه من الخصائص ما يمكن الإشارة إليه باعتباره استثناء، لا يسمح بمقارنة السعر فيه مع السعر المتوقع عند حدوث التخفيض المنتظر للعملة المصرية.

أما نسبة الـ15% المنتظرة، باعتبارها حداً أدنى لارتفاع الدولار القادم، فجاءت بعد مقارنة بما أطلق عليه التعويم الأول، والذي حدث في مارس/آذار من العام الماضي، حين نزحت الأموال الساخنة على غير توقع البنك المركزي ووزارة المالية المصريين، وتسببت في تدهور قيمة الجنيه على النحو الذي شهدناه خلال الـ13 شهراً الأخيرة، بداية بانخفاض بنفس النسبة المشار إليها بين عشية وضحاها.

المقارنة بتلك الفترة تشير إلى أننا بكل الأحوال في وضع أسوأ مما كنا عليه وقتها، حيث اقترضنا بعدها من السعودية وقطر ما يقدر بنحو 10 مليارات، سيتم تحويل خمسة منها على الأقل إلى أسهم في شركات مصرية لصالح قطر، كما جددنا ودائع كانت مستحقة للسعودية والإمارات والكويت، البعض يقول إنها 7 مليارات دولار، والبعض يشير إلى أنها أكثر من 10 مليارات، كما بعنا ما قدرت قيمته بملياري دولار من الشركات المصرية للإمارات.

وحصلنا أيضاً على بضعة مليارات أخرى من الدولارات، من الصين، وبعض المؤسسات الدولية، وفي صورة صكوك إسلامية وسندات باليوان الصيني، كما استلمنا الشريحة الأولى من قرض صندوق النقد الدولي، بينما مازالت الأموال الساخنة تتعزز علينا.

ويعني كل هذا نفاد، أو الاقتراب من نفاد كامل قدرتنا على الاقتراض من الأسواق الخارجية، وهو ما لم يكن عليه الحال في مارس/آذار 2022. وبالتالي تكون نسبة الـ15% المتوقع ارتفاع الدولار بها خلال الفترة القادمة هي أفضل ما يمكن انتظاره في الوقت الحالي.

يرى بعض المحللين أن السبب الأهم في حدوث المأساة خلال الربع الأول من العام الماضي كان سياسة النعامة، التي تدفن رأسها في الرمال، رغبة في إعطاء "تمام يا فندم.. كله تحت السيطرة" لرئيس الجمهورية وللأجهزة التي تدير معه، وبغض النظر عن حقيقة هشاشة الوضع، التي أثق أن المسؤولين وقتها كانوا يعرفون تفاصيلها.

اعتمد البنك المركزي المصري ووزارة المالية على الأموال الساخنة لسد عجز الحساب الجاري، وأوحوا للجميع بأن الأمور تحت السيطرة، بدليل تراجع سعر الدولار من 19 جنيهاً في عام 2017 إلى 15.75 جنيها لكل دولار في 2021، واستقراره عندها لفترة طويلة، وهو ما لم يكن صحيحاً على الإطلاق.

تحدث هذه الأمور في بعض الأحيان، نتيجة لظروف مختلفة، تشمل سوء الإدارة، أو ضعف الإمكانات الفنية، وصولاً إلى التآمر في بعض الأحيان. لكن حين يتم تكرار الموقف مرة أخرى، من خلال العمل على إخفاء الحقائق، للإيحاء بأن الأوضاع أفضل من حقيقتها، فهذا ما لا يمكن افتراض أي حسن نية فيه.

الظروف الاقتصادية الحالية تشير إلى أن هناك بعض الحقائق التي يحاول البعض طمسها، مرة أخرى، والتي قد تتسبب في انفجار جديد في وجوهنا جميعاً، لن يكون هناك حد فيه للتدهور في قيمة العملة المصرية، على النحو الذي حدث مع الليرة اللبنانية مؤخراً، وفي عملات بعض الدول الأخرى قبل ذلك.

أول حقيقة هي أن الأموال الساخنة التي تأتي إلى البلاد، ورغم أنها تبدأ رحلتها في مصر ببيع العملة الأجنبية وشراء الجنيه، الذي يتم استثماره في أوراق الدين المحلية، لا بد أن تدرج ضمن الديون الخارجية. فتلك الأموال، ومع التسليم بأنها بالعملة المصرية، إلا أنها قابلة للاسترداد في أي وقت، مع التزام البنك المركزي المصري بتوفير الدولار المقابل لها عند رغبة المستثمر في الخروج بأمواله والعودة لبلاده.

وتتعلق الحقيقة الثانية برصيد صافي الأصول الأجنبية لدى الجهاز المصرفي المصري، والتي يشير آخر تقارير البنك المركزي إلى وصولها إلى عجز دولاري، بقيمة 704 مليارات جنيه، أي ما يعادل 22.82 مليار دولار بالسعر الحالي.

وصافي الأصول الأجنبية هو قيمة الأصول المصرفية، المستحقة على غير المقيمين في البلاد، مخصومًا منها الالتزامات المالية تجاههم. ويعني العجز أننا ملتزمون تجاههم أكثر مما يستحق لنا طرفهم، أي أن البنوك المصرية باعت لعملائها بعضاً من أصول العملاء الآخرين المتاحة لديها، وهو ما تسبب في هذا العجز.

وفي حين يصر البنك المركزي على إعلان هذا الرقم بالجنيه المصري، ليتراجع المعادل الدولاري له مع كل ارتفاع في قيمة الدولار، يتعين علينا أن نأخذ في الحسبان، عند إحصاء ديوننا الخارجية، مبلغ العجز الدولاري في هذا البند، لأن رده بالعملة الأجنبية هو الحل الوحيد لتجنب إعلان إفلاس الدولة.

أما الحقيقة الأخيرة (بسبب ضيق المساحة فقط لا غياب الحقائق الأخرى) التي أود الإشارة إليها، فهي أن نشاط القطاع الخاص غير النفطي في مصر انكمش للشهر الثامن والعشرين على التوالي في مارس/آذار الماضي، وهو ما يعني أن أي حديث عن معدلات نمو اقتصادي سيكون من نصيب المؤسسات السيادية التي مازالت تحكم قبضتها على الاقتصاد، بينما يبقى ما دونها، إلا قليلاً، يتألم بالقرب من خطوط الفقر.

 

المساهمون