نتائج اقتصادية و 3 حقائق من أحداث غزة

18 يناير 2024
يجب إقامة دعوى تعويضات ضد إسرائيل عما فعلته بأهل غزة (فرانس برس)
+ الخط -

الشاعر المصري الكبير حافظ إبراهيم كان عالمياً في نزعته الإنسانية. وقد كتب قصيدة لما وقع زلزال" مسينا" أو "Messina" في جنوب إيطاليا عام 1908 من 59 بيتاً يصف فيها المأساة الإنسانية التي حصلت بعد الزلزال. وفيها يقول:

رب طِفلٍ قَد ساخَ في باطِنِ الأَرض

يُنادي أُمّي أَبي أَدرِكاني

وَفَتاةٍ هَيفاءَ تُشوى عَلى الجَمر

تُعاني مِن حَرِّهِ ما تُعاني

وَأَبٍ ذاهِلٍ إِلى النارِ يَمشي

مُستَميتاً تَمتَدُّ مِنهُ اليَدانِ

باحِثاً عَن بَناتِهِ وَبَنيهِ

مُسرِعَ الخَطوِ مُستَطيرَ الجَنانِ

تَأكُلُ النارُ مِنهُ لا هُوَ ناجٍ

مِن لَظاها وَلا اللَظى عَنهُ واني

غَصَّتِ الأَرضُ، أُتخِمَ البَحرُ مِمّا

طَوَياهُ مِن هَذِهِ الأَبدانِ

بالطبع وبعد قراءة هذه الأبيات البديعة في وصف أمر فظيع، فإن كل القراء سيفكرون بما يجري في غزة منذ أكثر من 105 أيام، ولكن الزلزال يستغرق ثواني محدودة، وتتلوه بعض الهزات الخفيفة الارتدادية ثم ينتهي.

أما الحرب على غزة ما تزال مستمرة لا هوادة فيها ولا انقطاع. ويقف المحامي الإسرائيلي مشيراً إلى أنه ومَدافِعه وطائراته وقذائفه وصواريخه ليست إلا دفاعاً عن النفس، وأن المتسبب فيها ليس الحقد الأعمى الذي يملأ الجندي الإسرائيلي، ولكن المتسبب الفعلي حسب قوله هم المقاومون الذين يتخذون من الأطفال والنساء ستراً من نيرانهم ومدافعهم.

ولكن طفلة واحدة تقول في مقابلة معها إنها مزروعة في الأرض، سنديانة عميقة الجذور، وإنها لن تغادر أرضها مهما كان الثمن. وأخيراً أفاق الضمير العالمي، وقامت دولة جنوب أفريقيا بتقديم شكوى إلى محكمة العدل الدولية في مدينة لاهاي ( Den Haag) بالهولندية.

وقد قرأت التقرير الذي أعد لتقديمه إلى المحكمة، وأعجبت به أيّما إعجاب لدقته وإحصاءاته وبلاغته اللغوية والقانونية، وتعاقب على تقديم التقرير عدد من المحامين من جنوب أفريقيا من السود والبيض، ومن الذكور والإناث واليافعين والشيب، ما أعطى انطباعاً أن جميع أهل أفريقيا الجنوبية ممثلون ومجمعون في رأيهم على موقف موحد واحد، وهي أن حكومة إسرائيل مارقة كاذبة وقاتلة للأطفال والنساء.

موقف
التحديثات الحية

وحتى كتابة هذه السطور، وكما هو متوقع، فلم تتخذ المحكمة حتى الآن قرارها، ولكن من الواضح إذا كان لديهم ضمير، كما أتوقع، فإنهم سيخرجون بقرار قريب يطالبون فيه بوقف إطلاق النار، وفتح الأبواب مشرعة لإدخال المساعدات والمعدات المطلوبة غذاء وشراباً وعلاجاً لأهل غزة الأبطال.

وقد سرني الانضمام إلى منظمة الأطباء العرب في شمال أفريقيا (NAAMA)، والتي قامت بتبني من أعضائها أمثال طبيب القلب المتميز الدكتور عمر لطوف، ومن بعض زملائه المتميزين بالترتيب لعقد مؤتمر في عمان/ الأردن، وبدعوة من نقابة الأطباء الأردنيين برئاسة الدكتور زياد الزعبي وبتعاون وثيق من نقابة أصحاب المستشفيات، والذي عين رئيسَها الدكتورَ فوزي الحموري رئيس الجمعية السابق، ليكون ضمن اللجنة التنفيذية التحضيرية للمؤتمر، ولقد توجت المحاولة بقبول الملك عبدالله الثاني بن الحسين رعاية المؤتمر والذي سيحضره ممثلون عن المنظمات الدولية والإقليمية والقُطْرية الرسمي منها وغير الحكومي من أجل تقدير الاحتياجات الطبية والعلاجية والبنيوية والدوائية لأهل غزة، للبدء فوراً بعد وقف إطلاق النار بالعمل مع الفرق الموجودة هناك لمعالجة الجرحى وحالات المرض المستعصية التي حرمت من الرعاية لكثرة الضحايا من البشر والمستشفيات والمؤسسات.

وسوف يعقد المؤتمر الثاني لاحقاً في مدينة الدوحة عاصمة دولة قطر من أجل تقدير الاحتياجات المالية لهذا الجهد المُلح والمطلوب بحكم الضرورة القصوى لمقاومة الآفات والأمراض السارية، وتضميد الجرحى ومنحهم رعاية أفضل، وإقامة المستشفيات المتنقلة، والإعداد لبناء العيادات وتدريب الكفاءات بدل التي استشهدت، وتعويض عربات الإسعاف والنقل. ولا أشك في أن دولة قطر سوف تمد يدها في جيبها في العمق لكي تقدم المال المطلوب إنقاذاً لحياة مئات الألوف ممن شرفونا في نضالهم وكفاحهم وعرّوا إسرائيل أمام العالم.

لقد أنشئت محكمة الجرائم الدولية والتي من المتوقع أن تصدر لاحقاً مذكرات اعتقال بحق المجرمين الإسرائيليين الذين ساهموا في هذه الجرائم متذكرين أن هذه المحاكم أنشئت أصلاً لمتابعة النازيين المتهمين بقتل اليهود في المحرقة. وقد كتبت مئات القصص وأنشئت عشرات الأبنية والنصب التذكارية "للهولوكوست" وأنتجت عشرات الأفلام، وأستطيع من ذاكرتي أن أعد على الأقل ثلاثين فيلماً أنتجت لتخليد ذكرى المحارق. والآن جاء دور الإسرائيليين الذين باعوا أنفسهم كذباً أنهم الضحايا الذين هربوا من ظلم أوروبا وبطشها بهم إلى فلسطين، حين قالوا "لن نسمح بذلك مرة أخرى"، أو "Never again" مما رخص لهم تحت مشاعر الذنب الأوروبية بقتل الفلسطينيين واحتلال أرضهم والتنكيل بكرامتهم.

ولكن ألمانيا التي على ما يبدو استفاقت من ردة فعلها القوية ضد الفلسطينيين والعرب وأهل غزة والمقاومة بدأت تحسّن من مفرداتها ومواقفها بقيادة من كرهناه المستشار أولاف شولتز. وكذلك رأينا تحسناً في موقف الحكومة البريطانية والفرنسية. ولكن التقدير يخص كلاً من إسبانيا، والبرتغال، والنرويج وأيرلندا الشمالية واسكتلندا في المملكة المتحدة والدنمارك والسويد وفنلندا.

وقد تفاوتت المواقف المناصرة للفلسطينيين في هذه الدول، ولكنها مثلاً منعت الرئيس جوزيف بايدن المتصهين من أن يعامل غزة معاملة روسيا عن طريق إنشاء تحالف من دول الناتو، كما فعل في حالة أوكرانيا ضد غزة والتي هاجمت حسب زعمه إسرائيل "المغلوبة على أمرها" والضحية البريئة. وبالطبع هناك (157) دولة من أعضاء الأمم المتحدة صوتت إلى جانب وقف إطلاق النار في غزة.

العالم العربي الملتهي بتوزيع اللوم على ما جرى في غزة، والسادر في لَوْم المقاومة الباسلة، يجب أن يعوض عن تلك المواقف غير المقبولة والمرفوضة بإظهار حسن الود للمنتصر في الحرب، وهي غزة العزة والشعب الفلسطيني الصامد. الأطفال في غزة لن ينسوا من وقف إلى جانبهم، ومن عمل ضدهم. وإذا عاد الإسرائيليون لأفعالهم مرة ثانية، فسيكون من أفظع الأمور أن يعود هؤلاء العرب لنفس الموقف الذي وقفوه وأهل غزة جاهزون للسماح ولكن ليس للنسيان.

ومن خلاصة القول في ضوء الأحداث المتسارعة على أرض فلسطين أن نستخلص ثلاث حقائق أساسية.

أولاً: لقد دفعت ألمانيا لإسرائيل حتى نهاية عام 1987 ما قدره بالدولارات في ذلك الوقت 14 مليار دولار، ولكنه يساوي ما قدره 36.5 مليار دولار عام 2022، أو نحو 37.5 مليار بأسعار 2024.

هذه كانت دفعات نقدية. ولكن ألمانيا دفعت كذلك منذ عام 1952 مبلغ 90 مليار دولار للأفراد اليهود الذين عانوا تحت النظام النازي، وفي زيارة المستشار شولتز الأخيرة استجاب لطلب المؤتمر اليهودي للادعاءات على ألمانيا من قبل اليهود مبلغاً إضافياً قدره 653 مليون دولار.

ولو أضفنا إلى ذلك ما استفادته إسرائيل من التكنولوجيا الألمانية، والمواد والمساعدات تحت التهديد، فإن ألمانيا تكون قد دفعت على الأقل تعويضات بقية 150 مليار دولار لإسرائيل.

ولنفس الأسباب، يجب إقامة دعوى تعويضات ضد إسرائيل عما فعلته بأهل غزة منذ عام 2005 على الأقل، وما أجرمت فيه بحق السجناء والموقوفين، وتعريض الناس للأذى. ولكن التعويضات المستحقة لغزة وأهلها يجب ألا تقل عن 30 مليار دولار تعويضاً عن الأبنية والمرافق والمدارس والجامعات. و30 مليار دولار عن الأرواح التي أزهقت والجرحى من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب المدنيين. ويجب تحضير الدراسات المطلوبة من الآن.

أما الأمر الثاني، فعلى العرب أن يبدأوا فوراً بالاتصال رسمياً بدولة جنوب أفريقيا من أجل مكافأتها على موقفها المتميز. وتستطيع هذه الدولة التي زرتها مرتين أن تكون وجهة سياحية رائعة لكل العرب حتى يروا جمال ذلك البلد، ويتعرفوا على أهله.

وعلى العالم العربي أن ينفتح على دول أفريقيا المؤيدة لنا ودول أميركا اللاتينية التي وقفت إلى جانبنا. وقد عدت لأرقام التجارة بين العالم العربي وجنوب أفريقيا فوجدت أن حجم التجارة يزيد على 10 مليارات دولار سنوياً، معظمها مواد نفطية ( صادرات إليها) وذهب وألماس وأحجار كريمة (منها). وهذه الأرقام قابلة للتنوع والزيادة.

وأما الأمر الثالث، فعلى العرب أن يشكلوا (دول المشرق العربي والمجموعة الخليجية) أو من يريد منهم ذلك، ترتيبات مشتركة مع بعض الترتيبات التجارية والاقتصادية في أفريقيا مثل كوميسا (COMESA) أو مجموعة دول شرق أفريقيا وجنوبها، أو (إيغاد) (IGAD) أو (NATA) أو غيرها.

هناك الكثير الذي يجب أن نتعلمه كعرب من درس غزة العزة، وأن نعيد بسبب ما منحتنا إياه من دروس وعبر لمبادئنا بإكرام من يقف معنا في الضراء لنكون معه في السراء.

المساهمون