تهاوي الليرة التركية لا يمثل الحالة الأولى في أسواق الصرف العالمية خلال الفترة الماضية، ولن تكون الأخيرة، فقد سبق انهيار العملة التركية انهيارات في عملات عربية وعالمية أخرى في مقدمتها الليرة اللبنانية والليرة السورية والريال اليمني والجنيه السوداني، وأخيرا الدينار الجزائري، وقبلها الجنيه المصري الذي تهاوى في أواخر 2016 عقب تعويمه كشرط من صندوق النقد الدولي لاقتراض 12 مليار دولار.
وواكبت تهاوي تلك العملات قفزات في أسعار السلع والخدمات وتآكل للمدخرات وزيادة في معدلات التضخم والبطالة والفقر.
الليرة التركية التي خسرت خلال العام الجاري نحو 45% من قيمتها لن تكون العملة الوحيدة التي ستعاني
وبينما يدخل العالم دورة اقتصادية جديدة في العام المقبل ترتفع فيها أسعار الفائدة المصرفية وأسعار الطاقة ومعدلات التضخم، تتوقع بنوك استثمار ومؤسسات مالية عالمية أن تواجه العديد من الدول أزمات اقتصادية وتزايد مخاطر انهيارعملات الاقتصادات الناشئة.
ووفق مصارف استثمارية فإن الليرة التركية التي خسرت خلال العام الجاري نحو 45% من قيمتها لن تكون العملة الوحيدة التي ستعاني، ولكن العديد من عملات الاقتصادات الناشئة الأخرى ستواجه مخاطر الانهيار، خاصة تلك الصادرة في الدول التي تعتمد كلية على الخارج من حيث استيراد الغذاء والطاقة، واستدانت بكثافة عبر السندات الدولارية منذ بداية جائحة كورونا.
في هذا الشأن يقول مصرف نومورا الياباني، إن هنالك أربع عملات من عملات الدول النامية ستواجه أزمة خلال الفترة المقبلة، من بينها العملة المصرية.
وحسب تحليل المصرف فإن هذه العملات هي، الجنيه المصري والـ" ليو" الروماني والبيسو المكسيكي الذي تراجع سعر صرفه هذا الأسبوع إلى أدنى مستوياته مقابل الدولار في 8 شهور والروبية السيريلانكية.
وبحسب مصرف نومورا، فإن ارتفاع الدين الخارجي كنسبة من إجمالي الناتج المحلي وتراجع حجم الاحتياط الأجنبي كنسبة من الواردات ستكون من أهم محددات قوة العملات في العام المقبل 2022 الذي بات من المتوقع أن يرتفع فيه سعر صرف الدولار عقب زيادة سعر الفائدة عليه، وربما تعيش الأسواق الناشئة فيه أزمة سيولة دولارية مع ارتفاع كلفة الاقتراض.
ويرى المستثمر الأميركي مارك مابيوس في تعليقات لقناة "سي إن بي سي" الأميركية، أن "جميع الدول الناشئة التي لديها مديونية مرتفعة بالدولار ستواجه عملاتها أزمة في سوق الصرف خلال العام المقبل". ولا يستبعد مابيوس أن تمتد أزمة الليرة التركية إلى العملات الناشئة الأخرى.
وفي ذات الصدد، لاحظ البنك الدولي في تحليل في سبتمبر/ أيلول الماضي أن ديون الاقتصادات الناشئة والنامية ارتفعت في المتوسط بنسبة 30% خلال العام الجاري. وهو ما يعني أن الدول الناشئة وشركاتها ستحتاج إلى مزيد من الدولارات لتلبية خدمة ديونها وتسديد فواتير الطاقة المستوردة.
تتركز الأنظار على الليرة التركية بسبب ثقلها في تجارة الصرف العالمي وحجم الاقتصاد ونفوذ تركيا داخل مجموعة العشرين وتأثيرها الجيوسياسي
وحتى الآن تتركز الأنظار على الليرة التركية بسبب ثقلها في تجارة الصرف العالمي وحجم الاقتصاد التركي ونفوذ تركيا داخل مجموعة العشرين وتأثيرها الجيوسياسي.
وربما تكون الليرة التركية أفضل حالاً في العام المقبل بسبب الترتيبات الخاصة التي نفذها البنك المركزي التركي عبر "مقايضات العملة" مع عدة دول، وقوة الصادرات التركية، وربما عودة السياحة التي تعد من مصادر العملات الصعبة في تركيا، إضافة إلى اكتشافات البترولي والغاز والذهب الأخيرة.
ووفق محللين، فإن تراجع سعر صرف الليرة ساهم في ارتفاع الصادرات التركية التي من المتوقع تجاوز قيمتها 220 مليار دولار خلال العام الجاري، وربما سيساهم ذلك في المستقبل في جذب المزيد من السياح الأجانب والاستثمارات للبلاد.
لكن يرى خبراء أن أزمة تركيا تتمثل في ارتفاع حجم ديونها قصيرة الأجل، خاصة الديون الدولارية وديون اليورو في وقت تتجه فيه الولايات المتحدة نحو زيادة معدل الفائدة على الدولار. ولكن هنالك العديد من عملات الدول الناشئة التي لا يتوفر لها الدعم المتوافر للعملة التركية خاصة من إيرادات الصادرات القوية.
في هذا الشأن، يرى محللون أن عملات الدول الناشئة ستواجه ثلاثة عوامل رئيسية تهدد استقرارها خلال العام المقبل، وربما تقود إلى اضطرابات سياسية واحتجاجات شعبية.
وهذه العوامل هي، رفع سعر الفائدة الأميركية، وبالتالي زيادة قوة الدولار، والعامل الثاني، ارتفاع أسعار النفط والغاز، وبالتالي زيادة أسعار المحروقات والمشتقات البترولية وتداعياتها على الدول المستوردة، والعامل الثالث ارتفاع معدل التضخم وغلاء السلع والمواد الغذائية، وهي كلها عوامل تضغط على عملات الأسواق الناشئة بما فيها عملات دول جنوب شرق أسيا والهند وجنوب أفريقيا وأميركا اللاتينية.
على صعيد قوة الدولار، ترى الزميلة بمدرسة كيندي للدراسات الاقتصادية بجامعة هارفارد، البروفسورة ميغان غرين، أن "الدولار خلافاً لتوقعات الخبراء بتراجعه خلال العام الجاري، واصل قوته وربما سيرتفع أكثر في العام المقبل".
يتوقع محللون هروب الدولارات من الأسواق الناشئة إلى الولايات المتحدة، وربما ينشأ عن ذلك نقص كبير في الدولارات بالأسوق النامية مثلما حدث في العام الماضي
وتقول غرين في تحليل بصحيفة " فاينانشيال تايمز"، إن الاقتصاد الأميركي ربما ينمو خلال العام الجاري بنسبة 8%، وهو ما سيدفع المستثمرين الأجانب لوضع أموالهم في الأسواق الأميركية بحثاً عن العائد الدولاري وخفض مخاطر الاستثمار في الأسواق الناشئة.
وفي ذات الصدد، يتوقع محللون هروب الدولارات من الأسواق الناشئة إلى الولايات المتحدة، وبالتالي ربما ينشأ عن ذلك نقص كبير في الدولارات بالأسوق الناشئة والنامية مثلما حدث في العام الماضي.
كما من المتوقع أن تضاعف قوة الدولارمن متاعب الاقتصادات الناشئة، لأن الدولار القوي سيرفع من خدمة الدين الخارجي بالنسبة للحكومات والشركات، خاصة خدمة الديون التي أخذت بالدولار أو ما يطلق عليه " سندات اليورو بوند".
وفي أولى علامات هجرة المستثمرين نحو السوق الأميركي تراجعت مؤشرات أسواق المال في آسيا أمس بينما سرت أنباء عن توجه مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) نحو رفع سعر الفائدة على الدولار.
وأوصى مسؤولون في محضر الاجتماع الأخير لمجلس الاحتياط الفيدرالي، يوم الأربعاء، أن تكون لجنة السوق المفتوحة مستعدة لتعديل وتيرة مشتريات الأصول ورفع معدل الفائدة في وقت أقرب من التوقعات الحالية، إذا استمر التضخم في التسارع ".
وعادة ما تقود الفائدة المرتفعة إلى زيادة قوة الدولار.
على صعيد ارتفاع أسعار المحروقات من مشتقات النفط والغاز الطبيعي، يتوقع خبراء أن تضاعف الأسعار المرتفعة من العجز في ميزان الحساب الجاري وتضطر هذه الدول لصرف المزيد من الرصيد الدولاري ببنوكها المركزية لتغطية فواتير المحروقات والمواد الغذائية، وبالتالي لن تكون قادرة على الدفاع عن عملاتها الوطنية أمام المضاربات التي ستجريها المصارف الاستثمارية الغربية بهدف التربح.
وفي شأن ارتفاع التضخم الذي بلغ 6% في الولايات المتحدة، وهو أعلى مستوى له منذ 30 عاماً، يرى مصرف "جي بي مورغان" الأميركي أن التضخم سيرتفع في الأسواق الناشئة خلال العام المقبل، وسيكون الصداع الرئيسي لعدد من الحكومات الناشئة المستوردة للغذاء والطاقة.
عملات عربية
عربيا، فقد تهاوت العديد من عملات دول المنطقة خاصة في ظل تفشي وباء كورونا والنقص الحاد في الإيرادات الدولارية، وشهدت العديد من العملات العربية تراجعا حادا في سعر صرفها أمام العملات الأجنبية وبصفة خاصة أمام الدولار خلال العام الحالي، الأمر الذي زاد من متاعب المواطن وتسبب في غلاء المعيشة.
وأبرز مثال ما حدث لليرة اللبنانية التي تراجع سعرها أمام الدولار بشكل كبير خلال العام الجاري امتدادا لمسار التدهور المستمر منذ العام الماضي.
وتخطى سعر الدولار عتبة 24200 ليرة وفقا لما نقلته وكالة "رويترز" أمس الخميس عن عدد من الصرافين. بينما بلغ سعر الصرف بداية العام الجاري في السوق الموازية نحو 8300 ليرة للشراء و8400 ليرة للبيع، لكل دولار. وفقدت العملة الآن أكثر من 93 بالمئة من قيمتها منذ صيف 2019 عندما بدأت الانفصال عن سعر الصرف الرسمي البالغ نحو 1515 ليرة للدولار، و3900 ليرة لأصحاب الإيداعات بالدولار في البنوك اللبنانية.
وعلى خلفية أسوأ أزمة إنسانية يعيشها الشعب السوري فقد تهاوت عملته الليرة بشكل حاد منذ بداية الحرب في 2011 حينما كان يبلغ سعر الدولار نحو 50 ليرة رسميا، مقابل 2525 ليرة للدولار أمس الخميس، و1256 ليرة مطلع العام الجاري.
أما في السوق الموازية، فإن سعر الليرة يدور حول 3500 ليرة للدولار، مقابل 2840 ليرة للشراء و2870 ليرة للبيع أول العام الجاري.
وشهد سعر صرف الجنيه السوداني تراجعا كبيرا خاصة بعد قيام البنك المركزي بتحرير سعر الصرف رسميا في فبراير/شباط الماضي وقام بخفض السعر التأشيري لعملته من 55 جنيها للدولار إلى 375 جنيها في أول أيام القرار.
ويبلغ سعر صرف الدولار أمام الجنيه حاليا في السوق الموازي نحو 440 جنيها، بينما السعر الرسمي للشراء 436 والبيع 439 جنيها للدولار الواحد. يأتي ذلك مقابل سعر صرف للدولار بنحو 260 جنيها في السوق الموازي بداية العام الحالي، مقابل 55 جنيها في البنك المركزي.
وامتد التهاوي إلى الريال اليمني الذي واصل هبوطه الحاد الذي بدأه مند بدء الحرب قبل نحو 7 أعوام. ونقلت "رويترز" عن صرافين ومتعاملين في عدن قولهم إن سعر صرف الريال في السوق السوداء سجل نحو 1520 ريالاً مقابل الدولار للشراء و1540 ريالاً للبيع، مقابل السعر الرسمي المعلن من البنك المركزي في عدن، وهو 1518 ريالا للدولار للشراء و1521 للبيع، بينما كان سعر صرف الدولار في أول العام الجاري يدور حول نحو 690 ريالا.
الأحدث في تهاوي العملات العربية ما حدث للدينار الجزائري الذي بات في فخ التعويم عقب التراجع المستمر له على خلفية أزمتي كورونا وتهاوي أسعار النفط والغاز خلال الجائحة، وسجلت العملة الجزائرية تراجعاً غير مسبوق، عند 139.2 ديناراً للدولار، و155 ديناراً لليورو، و185 ديناراً أمام الجنيه الإسترليني، علماً أنه في بداية الأزمة النفطية في منتصف 2014، كان سعر صرف العملة المحلية يساوي 83 ديناراً للدولار الواحد.
وبهذا التهاوي يقترب سعر الصرف الرسمي من سعر السوق الموازية، حيث سجل 190 ديناراً للدولار و210 دنانير أمام اليورو و125 ديناراً أمام الجنيه الإسترليني.
وبلغ سعر الدولار في السوق الموازية بداية العام نحو 180 دينارا للشراء و182 دينارا للبيع، مقابل السعر الرسمي حينها عند 132.12 دينارا للشراء و132.13 دينارا للبيع.