لم تسلم الوجبات الشعبية في مصر التي تعد ملاذ الفقراء ومتوسطي الدخول من صدمات التضخم، الذي تضاربت البيانات الحكومية الأخيرة بشأن تقديره ومقارنته بالأعوام الماضية.
ووفق البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الحكومي، يوم الأربعاء الماضي، صعد معدل التضخم إلى 14.6% على أساس سنوي في يوليو/تموز، مقابل 6.1% في نفس الشهر من العام 2021، ليسجل ثاني أعلى مستوى له في نحو 44 شهراً.
بينما وصف البنك المركزي في بيان رسمي في نفس اليوم، معدل التضخم الأساسي الذي يستبعد فيه أسعار السلع المتقلبة كالغذاء والوقود، بـ"الأعلى" في أربعة أعوام ونصف العام، مسجلا 15.6%.
المأكولات والانتقالات خير مؤشر لحالة التضخم
وبينما تتضارب البيانات الحكومية بشأن أسعار المستهلكين، تصبح المأكولات والانتقالات خير مؤشر لحالة التضخم ومدى استقرار الأسعار، في دولة كبيرة العدد، تضم نحو 104 ملايين نسمة، ونحو 10 ملايين آخرين من السائحين والمقيمين الأجانب.
في جولة ميدانية رصدت "العربي الجديد"، التغيرات التي طرأت على أسعار أشهر وجبتين يقبل المصريون على تناولهما، خارج منازلهم، وهما " الفول والطعمية" و"الكشري".
جاءت الوجبة الشعبية الأولى، على رأس الوجبات الأكثر تناولاً، بين كافة طبقات المجتمع، لتشهد ارتفاعاً في الأسعار بنسبة تتراوح بين 50% و90% خلال فترة الأساس التي يتحدث عنها الجهاز المركزي للإحصاء والتعبئة، الممتدة من يوليو/تموز 2021 إلى نفس الشهر من العام الجاري.
بينما رصد الجهاز ارتفاع قسم الطعام والمشروبات بنسبة 23.8%، إذ قفزت أسعار مجموعة الخبز بنسبة 45.9%.
وتعتمد الوجبة الشعبية الأولى على كثرة استخدام الخبز في مكوناتها، في بلد ينتج 10 ملايين طن من القمح، ويستورد ما بين 11 مليون طن قمح و13 مليونا، بينما قفزت الأسعار العالمية إلى مستويات كبيرة منذ اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا نهاية فبراير/ شباط الماضي.
وتأتي 85% من تلك الكمية من البلدين المتحاربين. ويفرط المصريون في استهلاك الخبز، لأنه أهم مصدر لتحقيق الإشباع، وتوفير السعرات الحرارية، والبروتين غير الحيواني.
وتوجه الدولة 50% من قيمة الدعم الحكومي السنوي لشراء القمح، وبيع الخبز المدعوم، لنحو 70 مليون مواطن، مع ذلك تبقى وجبه الفول والطعمية، خارج نطاق الدعم.
وتحظر الدولة على المطاعم، استخدام الخبز المدعم، في السندوتشات أو الأكلات خارج المنزل، بينما سمحت برفع سعر الخبز في القطاع الخاص بنسبة 50%. عدا التدهور في وزن رغيف الخبز، المدعوم والخاص، وتضاعفت أسعار الفول، الذي يأتي مقدار 90% من كمياته من الخارج، متأثرا بزيادة أسعار الشحن وانخفاض قيمة الجنيه، بعد فقد 21% من قيمته خلال الشهور الأربعة الماضية فقط.
المطاعم ترفع الأسعار
ولجأت المطاعم إلى رفع أسعار "ساندوتش الفول" من جنيهين ونصف في المتوسط بالأحياء الشعبية، وفوق العربات الجوالة بالقرب من الجهات الحكومية إلى 5 جنيهات، كما ارتفع قرص الطعمية (الفلافل) الواحد، من جنيه إلى بيع الثلاثة بخمسة جنيهات، وفي المناطق الأكثر رقيا، بلغ سعر الساندوتش 10 جنيهات، فيما يباع الساندوتش خاليا من أية إضافات، التي كانت توضع بدون مقابل مع كل وجبة.
ومع زيادة قيمة الإضافات، بعد غلاء الخضروات والمخللات، ترتفع القيمة الإجمالية لوجبة الفرد، من 20 جنيهاً في المتوسط إلى 30 جنيها في المناطق الشعبية و40 جنيهاً للمتوسطة، و100 جنيه في المناطق الأكثر رقياً.
تهيمن الأكلات القائمة على القمح، مثل الخبز والمكرونة والفريك على النظام الغذائي للمصريين، وفقا لتقريري منظمة الأغذية والزراعة "فاو" والبنك الدولي، صدرا عام 2021. مع عدم قدرة الدولة على دعم أكثر من 30% من السعرات الحرارية التي يوفرها القمح للمواطنين يومياً، ونشأت فجوة في عدم المساواة بين المواطنين القادرين على تحمل تلك الأعباء، وآخرين يسقطون في تعداد الجوعى.
يوضح البنك الدولي أن مصر لن تسلم من عواقب أزمة الحرب في أوكرانيا، وأثرها على الأمن الغذائي وارتفاع الأسعار. وفي تقرير حديث عن "صدمة الأمن الغذائي" أصدره البنك في 29 يوليو/تموز الماضي، أكد أن مصر مازالت تواجه نقصاً حاداً في رصيدها من القمح، الذي ارتفع سعره خلال الفترة من يوليو/تموز 2021 إلى يونيو/حزيران 2022، نحو 22.4%، بما يعني زيادة عدد الأشخاص الذين لا يستطيعون الحصول على نظام غذائي صحي، مع تضخم أسعار الأغذية، وانهيار قيمة الدخل.
يشير خبير اقتصادي إلى أن الطريقة الوحيدة التي يمكن بها قياس أسعار المستهلكين هي السلع الحيوية للمواطن.
وتأتي وجبة الكشري كذلك، على قائمة السلع التي يحتاجها الناس في الشوارع ومقار الوظائف، ويصنعونها ببهجة داخل بيوتهم.
فوجبة الكشري، التي تحتوى على المعكرونة والعدس والحمص والبصل والأرز، تحتوي على نسبة عالية من المواد الكربوهيدراتية المنشطة للجسم، وكثير من البروتينات.
غلاء مكونات الكشري
وصعدت أسعار مكونات وجبة الكشري، بنحو 40%، مع ارتفاع سعر كيلو الأرز من 11 جنيها إلى 17 جنيهاً في المتوسط، ورغم تراجعه بالأسواق خلال الشهر الماضي، متأثرا باقتراب موسم الحصاد الجديد، إلا أن الأنباء جاءت بما لا تشتهي المطاعم، حيث يتوقع أن ينخفض المحصول في العام المقبل في الأسواق الدولية، مع تهديد الهند أكبر مصدر للأرز في العالم، بعدم تصدير محصولها الجديد، لمواجهة أزمة غذاء عالمية يحذر من وقوعها كثير من الخبراء.
تستورد مصر نحو 300 ألف طن من الأرز، وتحدد الحكومة مساحة زراعته بنحو مليون فدان سنوياً (الفدان يعادل 4200 متر مربع)، تكفي الاستهلاك المحلي.
وزادت تكاليف زراعة الأرز، بعد رفع الحكومة سعر الأسمدة، بنسبة 50%، ويحصل الفلاح على الأسمدة من السوق الحرة، بضعف أسعارها. كما رفعت الحكومة سعر الديزل والوقود اللازم لتشغيل طلمبات المياه والنقل، فرفعت التضخم بنحو 10%، بقطاع النقل بمفرده، وفقا لجهاز التعبئة العامة والإحصاء.
كما تستورد مصر 90% من العدس، والذي شهد ارتفاعاً من 15 جنيها، إلى 30 جنيها للكيلوغرام، خلال العام.
يؤكد صاحب مطعم شهير وسط القاهرة، أنه لم يرفع سعر وجبة الكشري، في محله الأول، الذي يجعله صاحب مكانة وشهرة في أنحاء البلاد.
ويشير إلى أنه اضطر إلى تحمل جزء من خسائر التشغيل، مقابل أن يستمر سعر الوجبات ما بين 20 و30 جنيهاً في المتوسط، مع ترك الفروع التي أنشأها في المناطق الراقية، تحدد السعر كما تشاء، وفقا لحالة المنطقة التي تعمل بها.
زيادة أسعار الكهرباء
ويشير صاحب مطعم شعبي شهير آخر، متعدد الفروع،إلى أنه رفع الأسعار لكل الوجبات، بسبب زيادة أسعار الكهرباء والخدمات الحكومية والنقل والخضروات والأرز والبقوليات.
ويرجع ذلك إلى تحصيل الحكومة ضرائب بواقع 14%، على وجبه الكشري، مع الفول والطعمية، بعد أن كانا معفيين من الضرائب، ووضعت رسوما وضرائب إضافية، نقوم بتصديرها للمستهلكين، عدا ما نتحمله من أعباء زيادة الأجور.
تصاعد أسعار الفول والطعمية والكشري بقوة، يضاعف معاناة الفقراء ومحدودي الدخل، من تضخم غير محسوب رسمياً بدقة، يرصد حقيقته الذين يعانون من تراجع قيمة الدخول، وارتفاع معدلات البطالة، في وقت تتوجه الحكومة إلى الدفع بمزيد من العوامل التي ترفع التضخم وأسعار المستهلكين.