منذ أن دخل لبنان نفق الأزمة الماليّة الحاليّة، اقتحم مصطلح التدقيق الجنائي في ميزانيات مصرف لبنان (البنك المركزي اللبناني) يوميات اللبنانيين، وبات أحد محاور السجال السياسي في البلاد.
التدقيق الجنائي يختلف عن التدقيق المحاسبي العادي، لكونه يذهب أبعد من تقييم الإجراءات والمعايير المحاسبيّة المعتمدة، ليبحث عن حالات غش أو إساءة استعمال النفوذ، أو عن عمليات تبدو في ظاهرها مطابقة للمعايير المحاسبيّة، لكنها تخفي حالات كسب غير مشروع.
تتعدد الأسباب التي تجعل من التدقيق الجنائي في مصرف لبنان مسألة ملحّة اليوم. فالانطلاق في مسار المعالجات عمليّاً مستحيل من دون فهم طبيعة الخسائر المتراكمة داخل ميزانيات القطاع المصرفي والمالي، وخصوصاً ميزانيات مصرف لبنان، ودون تحديد حجم هذه الخسائر بالضبط، وحجم الموجودات المتبقية بالعملة الصعبة وطبيعة هذه الموجودات. مع العلم أن كل هذه المسائل يسودها حاليّاً قدر كبير من الغموض، ولم تنفع حتّى أساليب التدقيق المحاسبي العاديّة في تشريح هذه الخسائر والموجودات كما يجب، فيما يصر مصرف لبنان على التعامل بتحفّظ مع أي محاولات للدخول في هذه التفاصيل.
من ناحية أخرى، لا يمكن الشروع بوضع خطّة ماليّة متكاملة لتوزيع هذه الخسائر والتعامل معها، من دون فهم أسباب الخسائر والأطراف المسؤولة عنها، والجهات التي استفادت ماليّاً طوال الفترة الماضية من الإجراءات التي أدت إلى تراكم الخسائر.
فمبدأ توزيع الخسائر لا يجب أن ينطلق من فكرة حماية الفئات الاجتماعيّة الأكثر هشاشة فقط، بل أيضاً من مبدأ تحميل كلفة التصحيح للفئات التي تسببت بالانهيار المالي، وتلك التي استفادت من النموذج الاقتصادي الذي أدى إلى الأزمة الحالية.
مع العلم أن قدرا كبيرا من الخسائر الموجودة حالياً في مصرف لبنان ترتبط بعمليات استثنائيّة باهظة الكلفة، جرت تحت مسمّى الهندسات الماليّة، حصلت بموجبها المصارف المحليّة على نسب خياليّة من الأرباح في مقابل نقل أموال المودعين من المصارف المراسلة إلى مصرف لبنان.
وعلى أي حال، فمسألة التدقيق الجنائي باتت ضروريّة أيضاً للتأكد من أنماط الإنفاق التي أدّت إلى تبديد أموال مودعين في الماضي لن تؤدّي مجدداً إلى تبديد أي مساعدات مستقبليّة، خصوصاً أن الجزء الأكبر من فجوة العملات الأجنبيّة، أي الفارق بين التزامات النظام المالي وموجوداته بالعملة الصعبة، نجمت بشكل أساسي عن تمويل التحويلات للخارج وفقاً لنموذج تثبيت سعر الصرف، بالتوازي مع الإصرار على جمع سيولة النظام المصرفي عبر الهندسات الماليّة المكلفة.
لكل هذه الأسباب، تحوّل تشريح ميزانيات مصرف لبنان إلى شرط من شروط المساعدات الخارجيّة. صندوق النقد الدولي مثلا أصرّ على مبدأ "التدقيق الشامل والمفصّل" في أرقام مصرف لبنان، فيما تبنّت المبادرة الفرنسيّة لاحقاً هذا الشرط. أما الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، فذهبا أبعد من ذلك عبر تحديد التدقيق الجنائي بالاسم كشرط لا تراجع عنه.
وهكذا بات أقطاب الحكم في لبنان أمام تحدٍّ جديد: فالضغط الدولي يدفع باتجاه إجراء هذا التدقيق، وصار من الواضح أن مسار الخروج من الانهيار غير ممكن من دون المضي بهذا الملف. وفي المقابل، يدرك الجميع أن من شأن هذا التدقيق أن يكشف الكثير من المسائل التي تطاول كبار النافذين في النظامين المالي والسياسي، وهو ما لا تجرؤ السلطة السياسيّة على فعله.
لهذه الأسباب انطلق مسار التدقيق الجنائي تحت وطأة الضغط الخارجي، لكنّ طريق هذا التدقيق كانت مزروعة بعدد لا يُحصى من الألغام في كل مرحلة من مراحله.
في البداية تمنّع مصرف لبنان عن تسليم الغالبيّة الساحقة من المستندات المطلوبة من قبل الشركة المكلفة بإجراء التدقيق وهي شركة التدقيق الجنائي "ألفاريز أند مارسال" Alvarez & Marsal، بحجة تناقض طلبات الشركة مع قانون السريّة المصرفيّة، رغم أن هيئة التشريع والاستشارات ونقابة المحامين ووزيرة العدل أفتوا بعدم شمول المعلومات المطلوبة من قبل الشركة بمبدأ السريّة المصرفيّة. ولهذا السبب، قررت الشركة الانسحاب من هذا المسار خوفاً على مصداقيتها من تدقيق لا يملك أبسط مقومات الجديّة. ثم عاد المصرف بداية شهر إبريل 2021 ليعلن أنه مستعد لتسهيل عمليات تدقيق الشركة ومساعدتها بكل ما أمكن.
أقرّ المجلس النيابي قانونا لتذليل العقبات القانونيّة المفتعلة، عبر رفع السريّة المصرفيّة لغايات التدقيق الجنائي، لكنّ المجلس حرص على إبقاء ألغام عديدة أبرزها الإصرار على توازي التدقيق في مصرف لبنان مع التدقيق في سائر مؤسسات الدولة اللبنانيّة. علماً أن هذه الخطوة ستعني فتح باب سجال سياسي لا ينتهي حول المؤسسات التي يفترض أن يبدأ منها التدقيق، خصوصاً أن جميع أقطاب الحكم يخفون صفقات لا تحصى في كل من مؤسسات الدولة الأخرى. كما من المعلوم أن تلك الخطوة ستعني عرقلة التدقيق في الوقت الراهن وإحالته للحكومة القادمة، لكون حكومة تصريف الأعمال لا تملك صلاحية توقيع عقد جديد بنطاق أوسع.
في كل الحالات، آخر المناورات كان عودة الحديث عن إرجاء التدقيق الجنائي ريثما يتم تشكيل الحكومة الجديدة، وربطه بالتدقيق في سائر مؤسسات الدولة، باستعمال الألغام التي انطوى عليها القانون الذي أقرّه المجلس النيابي.
ويبدو أن مصرف لبنان تلقف هذه المناورات، فترك مسألة تقديم جزء من المستندات المطلوبة معلقة إلى أجل غير مسمّى بعد نهاية شهر إبريل / نيسان الجاري. مع مسبق علم المصرف أن شركة التدقيق الجنائي لن تعود إلى عقد التدقيق مع لبنان إلا بعد تأمين جميع المستندات المطلوبة، خصوصاً أن سمعتها كشركة استشاريّة دوليّة لا تسمح بالدخول على نحو متكرر في عقود لا تقوى على تنفيذها.
الهدف إذاً هو التسويف والمماطلة في هذا الملف قدر الإمكان. أما غاية التسويف والمماطلة فهي مزدوجة، فمن ناحية يراهن المعرقلون على حرق أكبر قدر ممكن من فترة رفع السريّة التي نص عليها قانون رفع السريّة المصرفيّة لغايات التدقيق الجنائي، والمحددة بسنة واحدة تبدأ مع نفاذ القانون. ومع كل حرق إضافي في هذه المدّة، يضيق الوقت المتاح أمام الشركة لإجراء تحقيقاتها في ميزانيات المصرف المركزي. ومن ناحية أخرى، يراهن هؤلاء على تعجيز آلفاريز آند مرسال، الشركة التي كلفتها الحكومة إجراء التدقيق، وحشرها، ودفعها للانسحاب من التفاوض للعودة إلى مسار التدقيق الجنائي، خصوصاً أن إطالة فترة التفاوض هذه ستوحي بمساومة الشركة على نطاق التدقيق، وهو ما سيضر بمصداقيتها وسمعتها.
باختصار، سيظل ملف التدقيق الجنائي يراوح مكانه في الوقت الراهن، بين الضغط الدولي المصر على انجازه، وخشية الأقطاب المحليين مما يمكن أن يكشفه هذا التدقيق. وبذلك ستظل أسرار أحد أكبر الانهيارات المصرفيّة في التاريخ الحديث بعيدة عن أعين الرأي العام، وأعين المودعين الباحثين عن مصير أموالهم.