من غزة إلى نيويورك... عقود النفط العربية قادمة

18 ديسمبر 2023
السفن والحاويات النفطية في البحر الأحمر تحت مخاطر هجمات الحوثي (getty)
+ الخط -

لا يزال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة يُلقي بظلاله على الأسواق العالمية، وفي ظل هذه الأحداث المتسارعة والخشية من اتساع نطاق الحرب والصراع تبرز مسألة محورية تتجاوز حدود القطاع لتلامس سعر برميل النفط.

فأسواق النفط تعد مرآة تعكس تقلبات الاستقرار السياسي والأمني في المنطقة، واليوم مع كل صاروخ يسقط على غزة، وكلمة إدانة وتهديد من رؤساء الدول المنتجة للنفط، يتحرك سعر البرميل للأعلى، مخلّفاً أسئلة حول مدى قدرة الاقتصادات على تحمل أسعار باهظة للطاقة.

وهنا سأحاول استكشاف هذه التداعيات وتلمس فرص الدول العربية المنتجة للخام الأسود لكسر احتكار الدول الغربية لتسعير برميل النفط. 

حساسية الخام الأسود مع الحروب 

لا يخاف العالم من المقاومة في غزة وحسب! فأصوات المدافع تُسمع في أسواق وبورصات "وول ستريت" و"شيكاغو" حيث تتحدد أسعار النفط والمعادن والمواد الخام، لهذا السبب تسعى الكثير من دول العالم لإنهاء الحرب في غزة بأسرع وقت، أو حصرها على الأقل داخل القطاع.

فالحرب لا تؤثر فقط على الإنتاج والبنية التحتية للنفط، بل تعيد أيضاً تشكيل توقعات السوق وسلوك المستثمرين وصنّاع القرار والحكومات حول مآلات الحرب على أسواق الطاقة وأثرها على معدلات النمو الاقتصادية.

يمتلئ التاريخ بأمثلة كثيرة حول كيفية تحول الأزمات السياسية والعسكرية إلى تقلبات حادة في أسعار النفط، ولا يختلف الوضع كثيراً في حالة غزة التي تمثل القضية الفلسطينية القضية المقدسة لدى المسلمين والعرب.

في مثل هذه الأيام من شهر تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1973 أقامت الدول العربية الأعضاء في منظمة "أوبك" الدنيا ولم تقعدها على أسواق الطاقة رداً على دعم الدول الغربية لـ"إسرائيل" في عدوانها الثلاثي على سورية ومصر والعراق.

وأعلنت المنظمة أنها ستوقف إمدادات النفط إلى الولايات المتحدة وهولندا، فارتفع سعر برميل النفط على الفور، ووقع الاقتصاد العالمي في اختبار كبير أدى إلى ركود وارتفاع التضخم والبطالة ليعاني الاقتصاد العالمي حتى أوائل الثمانينيات.

كما أدت الثورة الإيرانية عام 1979 في انخفاض الإنتاج النفطي، والحرب العراقية الإيرانية بين 1980- 1988، وغزو العراق للكويت 1990، وحرب الخليج الثانية 1991، والغزو الأميركي للعراق 2003، والثورة الليبية في العام 2011،  بالإضافة إلى التوترات التي حصلت بين أميركا وإيران على خلفية برنامجها النووي.

كل تلك الأخطار الجيوسياسية والعسكرية كان لها تأثير مباشر على أسواق النفط العالمية، وأحداث غزة ليست بعيدة عن هذا السياق إطلاقاً. 

لنأت الآن على آثار الاستقرار الجيوسياسي على أسواق النفط، هناك عدة عوامل يمكن تضمينها: 

أولها: الإمدادات التي تتأثر في أوقات الحرب إما بسبب الأضرار التي تلحق بالبنية التحتية مثل الآبار والموانئ، أو بسبب القيود التي تفرضها الدول على إنتاج وتصدير النفط.

ثانيها: المخاطر الجيوسياسية والتي تزيد من المخاطر المرتبطة بالاستثمار في قطاع النفط والتجارة به كما هو حاصل في سورية التي كانت تنتج قبل العام 2011 نحو 400 ألف برميل يومياً، في حين لا يتجاوز إنتاجها اليومي حالياً الـ150 ألف برميل بأفضل الأحوال.

ثالث تلك العوامل هو سلوك المستثمرين والمضاربين في البورصات والأسواق العالمية، فآلية تحديد سعر أي سلعة في الأسواق تعتمد على ماتريكس العرض والطلب والتي تتأثر بدورها بالأخبار والتوترات الواردة من البلدان المنتجة والدول المستهلكة.

رابع تلك العوامل: الأمن النفطي، فالدول المستهلكة للنفط تصبح أكثر وعياً بضرورة تأمين وارداتها من النفط، وهو ما يؤدي لإحداث تغييرات في سياسات الطاقة لدى الدول، وهو ما حصل بعد أزمة تشرين الأول، حيث أقرّت أميركا فكرة التخزين الاستراتيجي للنفط والبحث عن مصادر بديلة.

ويمكن أن تؤدي الحرب إلى انخفاض النشاط الاقتصادي وميل الأفراد نحو الادخار وعدم الإنفاق، وهو ما قد يخفّض الطلب على النفط وبقية السلع والخدمات ويدخل الاقتصاد في ركود وبطالة.

وقد تؤدي النزاعات إلى إغلاق ممرات مائية رئيسية مثل قناة السويس ومضيق هرمز، وهو ما يزيد تكاليف التأمين والنقل ويؤثر على أسعار النفط أيضاً، كما حدث إبّان غزو روسيا لأوكرانيا وجائحة كورونا. وأخيراً التأثير على قيمة العملات خاصة تلك المرتبطة بالدول المنتجة للنفط.

كما يمكن أن تؤدي الحروب وارتفاع أسعار النفط إلى استفادة شركات إنتاج النفط الصخري الذي يعد أكثر كلفة للإنتاج مقارنة بالنفط التقليدي، ليصبح ذا جدوى اقتصادياً، وعليه قد ترى الدول التي تمتلك النفط الصخري فرصةً كبيرة لزيادة الإنتاج وتعزيز أمنها الطاقي وإحلال الواردات.

وستتجه الدول والشركات نحو تنويع مصادر الطاقة لتقليل وضخ أموال أكثر في قطاعات الطاقة البديلة من الكهرباء والرياح على سبيل المثال.

عقود نفط عربية جديدة 

تكمن حساسية العدوان على غزة على الرغم من كونها غير منتجة للنفط من الأهمية الجيواستراتيجية للشرق الأوسط، فغزة تساوي فلسطين، والأخيرة في قلب وعقل كل الدول العربية المنتجة وغير المنتجة للنفط.

ليصبح التوتر في غزة يؤدي لتوتر في المنطقة ويحمل تداعيات على أسواق الطاقة العالمية تساهم في تعزيز حالة عدم اليقين والتوتر في الأسواق.

يحمل أوجه الخوف من الحرب في غزة؛ لاحتمال امتداد الصراع في المنطقة ليشمل دولاً أخرى، لبنان وسورية، وقد تمتد المخاوف إلى دول نفطية كبرى في المنطقة مثل السعودية والعراق، ما قد يؤدي لتأثير مباشر على إمدادات النفط.

فهاتان الدولتان لديهما حصة من الإنتاج العالمي بواقع 15%، وإذا شملنا بقية دول الخليج والجزائر وليبيا سيكون لدينا ما بين 25% إلى 30% من الإنتاج العالمي للنفط، أي 25 إلى 30 مليون برميل يومياً، يكفي المساس بأمن هذه الدول أو إطلاقها تهديدات لدول العالم بحظر إنتاج النفط لحدوث صدمة اقتصادية وارتفاع سعر البرميل إلى أكثر من 200 دولار.

لمجرد تفكير المستثمرين حول العالم بهذا السيناريو ستزيد المخاطر المستقبلية للسعر، ويؤدي ذلك لتقلب الأسعار قبل حدوثه، وهو ما حصل بالضبط بعد 7 أكتوبر /تشرين الأول، حيث ارتفع سعر برميل نفط "برنت" من 83 دولارا إلى 92.50 دولارا في 23 من الشهر ذاته.

إلا أن أسعار النفط عادت للانخفاض إلى 82 دولارا في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، ثم تراجعت إلى 76.6 دولارا يوم الجمعة 15 ديسمبر، مدفوعةً بتراجع الطلب في الولايات المتحدة والصين والهند.

ما يشير إلى فائض في العرض وانخفاض توقعات الاستهلاك الأميركية للنفط بمقدار 300 ألف برميل يومياً، وانكماش الصادرات الصينية من السلع والخدمات بشكل أسرع من المتوقع، ما أثار مخاوف بشأن توقعات الطلب على الطاقة في المستقبل، والمخاوف الاقتصادية في أوروبا من احتمال حدوث ركود اقتصادي.

على الرغم من انخفاض السعر، إلا أن الأحداث الجارية في غزة قد تعكّر صفاء الانخفاض إذا استجد أي جديد في الصراع لتعاود الأسعار التحرك نحو الارتفاع مجدداً.

أخيراً، مع استمرار قصف المدافع على غزة، يُفترض أن ينحصر تفكير الدول العربية المنتجة للنفط بإيجاد طريقة لإيقاف العدوان الإسرائيلي ووضع حد لدعم الدول الغربية لـ"إسرائيل"، وفي هذا الإطار آن الأوان لاتخاذ جملة من القرارات الاستراتيجية في أسواق الطاقة العالمية.

تعد عقود "خام برنت" و"خام غرب تكساس الوسيط" المعيار الرئيسي لأسعار النفط عالمياً، حيث تتداول هذه العقود بكثافة في بورصة العقود الآجلة للسلع، وبورصة نيويورك للأوراق المالية، ويصل حجم التداول اليومي إلى عشرات آلاف العقود بحيث يمثل كل عقد 1000 برميل من النفط وتسعّر بالدولار.

في المقابل هناك 3 عقود رئيسية لتسعير النفط العربي، وهي "خام دبي" و"خام عُمان" و"عرب لايت" من السعودية، وتشكل هذه العقود الثلاثة الخامات المرجعية على المستوى الإقليمي، وحجم التداول عليها يعد قليلاً مقارنة بالعقود الأميركية.

بالإضافة إلى سعر "سلة أوبك"، وتشمل مزيجاً من الخامات الثقيلة والخفيفة والمتوسطة.

من بين القرارات العربية التي يمكن اتخاذها إيجاد صيغة ورمز مشترك لتسعير الخامات العربية، وتداول العقود في البورصات العربية بوحدة نقدية موحدة لها أوزان تمثل حجم إنتاج الدول العربية للنفط، كالريال السعودي والعُماني والدرهم الإماراتي والدينار الجزائري (مثل حقوق السحب الخاصة)، بحيث تنافس عقود النفط الأميركية وتسحب سيولة مالية هائلة تقدر بمئات المليارات نحو المنطقة العربية.

بهذه الطريقة يتم إنتاج النفط من حقول عربية، وبعقود عربية، وبعملات عربية، ويتم تداولها في أسواق المال العربية، وبهذه الطريقة أيضاً تتخلص الدول العربية من تبعيتها للغرب وتمتلك حريتها المالية والاقتصادية وشخصيتها المستقلة وقدرتها على فرض آرائها وقراراتها في العالم. فإذا قالت "ليتوقف العدوان على غزة"، فهذا يعني أن يتوقف فوراً.

المساهمون