تلوح في أفق بعض الاقتصادات الأوروبية غيوم ملبدة. ويقدم الاقتصاد الألماني أحد الأمثلة على حالة الانكماش المتوقعة للعام الجاري 2024.
ويزيد من ضبابية المشهد الواقع الناشئ في منطقة البحر الأحمر الحيوية بالنسبة لسلاسل التوريد نحو القارة العجوز، وقد ظهرت بعض عواقبها في وقف بعض كبريات شركات الشحن العالمية العبور منه، ما أدى إلى تأخر الإمدادات من المواد الأولية ومكونات الإنتاج التي اتضحت بشكل جلي في قطاع السيارات، حيث توقفت مصانع كبرى على مدار الأيام الماضية.
وقد تسببت أزمة سلاسل التوريد التي ترتسم ملامحها في توقف إنتاج شركة تسلا وفولفو وسوزوكي وتغييرات في خطط شركة فولكسفاغن. فقد قالت "تسلا" لصناعة السيارات الكهربائية الأميركية، الخميس الماضي، إنها ستعلق معظم إنتاج السيارات في مصنعها الواقع بالقرب من العاصمة الألمانية برلين في الفترة من 29 يناير/كانون الثاني الجاري وحتى 11 فبراير/شباط المقبل، مشيرةً إلى نقص المكونات بسبب التحولات في طرق النقل بسبب الهجمات على السفن في البحر الأحمر.
كذلك تعتزم مصنعة السيارات "فولفو" تعليق الإنتاج بمصنعها في بلجيكا، الأسبوع المقبل، كما أعلنت شركة سوزوكي اليابانية أن مصنعها في المجر لن يقوم بتصنيع طرازي "فيتارا" و"إس. كروس" في الفترة من 15 إلى 21 يناير/ كانون الثاني، فيما بدات شركة "فولكسفاغن" الألمانية إعادة توجيه شحنات قطع غيار السيارات لتسلك المسار حول جنوب أفريقيا، بدلاً من المرور عبر البحر الأحمر ومن ثم قناة السويس، لتجنب أزمة توريد.
وفي تقرير حديث لمعهد كييل للاقتصاد العالمي في ألمانيا، نُشر في 11 يناير/كانون الثاني، فإن مؤشرات التداعيات التي تسببت بها الهجمات على سفن الشحن في البحر الأحمر تظهر أن الحاويات المنقولة انخفضت بأكثر من النصف خلال ديسمبر/كانون الأول الماضي، بينما تصل نسبة الانخفاض حاليا إلى نحو 70%، فضلا عن ارتفاع تكاليف الشحن وزيادة وقت النقل من شرق آسيا، لاختيار العديد من شركات الشحن الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح في أقصى جنوب القارة الأفريقية صعوداً نحو القارة الأوروبية.
ويسري ذلك بالتأكيد على الواردات والصادرات إلى ومن القارة العجوز التي بالكاد تحاول الخروج من مأزق الانكماش والتضخم، بعد جائحة كورونا والحرب المستعرة في أوكرانيا المستمرة منذ فبراير/شباط 2022.
ويبدو أن حرب الاحتلال الإسرائيلي على غزة على مدار أكثر من 100 يوم (منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي) بدأت تلقي بظلالها على بعض الاقتصادات الكبرى، بحسب مؤشرات معهد كييل منذ نهاية ديسمبر/كانون الأول 2023، خاصة الاقتصاد الألماني الأكبر في منطقة اليورو.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول الماضيين انخفضت التجارة العالمية بنحو 1.3%. بينما على مستوى الاتحاد الأوروبي فإن مؤشر الصادرات أفاد بتراجعه بما لا يقل عن 2%، بينما الواردات هبطت 3.1%. ومنذ ذلك الحين تزايد التوتر، بعد القصف الأميركي والبريطاني للحوثيين في اليمن. حيث يؤدي تنامي الصراع، وغياب اليقين، إلى مزيد من التعقيدات التجارية العالمية، في منطقة عبور حيوية للاقتصادات الكبرى.
وعلى هذا المستوى يمكن تتبع كيف أن التجارة الخارجية الألمانية شهدت في الأشهر الأخيرة ضعفاً في انخفاض صادراتها بنحو 2% والواردات بنسبة مماثلة، ذلك على عكس الحالة الصينية في المقارنة. فالأخيرة حققت أرقاماً إيجابية في الصادرات بنسبة 1.3% وفي الواردات بنسبة 3.1%، وتواصل الاتجاه نحو الصعود.
التأثير الذي تسببت فيه الهجمات في البحر الأحمر وباب المندب على وجه الخصوص، أدى إلى اختيار الشركات الناقلة العملاقة التوجه نحو رأس الرجاء الصالح في أفريقيا، ما يعني أن الوقت الذي يستغرقه نقل البضائع بين مراكز الإنتاج الآسيوية والمستهلكين الأوروبيين قد ازداد بشكل كبير، وبما يصل إلى 20 يوماً، بدلا من 7 أيام من خلال عبور البحر الأحمر صعوداً نحو قناة السويس.
بالطبع استتبع انخفاض في أرقام التجارة الأوروبية ذلك الدوران حول رأس الرجاء الصالح، ومنها الألمانية، حيث تواصل أعداد الحاويات الانخفاض. في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي وحده سجل تراجع إلى النصف، فمن 500 ألف حاوية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إلى حوالى 200 ألف حاوية فقط، وزادت حدة التراجع مع مطلع العام الحالي بنسبة 66%.
وبشكل عام أدى كل ذلك التعقيد على خطوط الإمداد إلى زيادة في أسعار الشحن. فنقل حاوية بحجم 40 قدماً بين الصين وشمال أوروبا أصبح اليوم نحو 4 آلاف دولار أميركي، بينما في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وقبل أن تتصاعد الأزمة في البحر الأحمر، لم تتجاوز التكلفة 1500 دولار. بالطبع لم تصل الأزمة إلى ذروتها التي وصلتها في خلال فترة جائحة كورونا، التي أدت إلى ارتفاع التكلفة إلى نحو 14 ألف دولار في بعض الأشهر الأولى للفيروس.
ومع بدايات استهداف الناقلات في باب المندب أوقفت شركة بريتش بتروليوم (بي بي) الناقلة للنفط عمليات الشحن في البحر الأحمر. وانضمت إليها في الأسبوعين الأخيرين من العام 2023 شركة الشحن العملاقة الدنماركية ميرسك (إيه بي موللر ميرسك).
ووفقا لموقع "شيبنغ ووتش" المعني بحركة الشحن، أوقفت أيضا شركة الشحن هاباغ لويد ومقرها ألمانيا جميع عمليات الإبحار بعد تعرض سفينة ألمانية لهجوم. وكذلك فعلت شركة "سي أم إيه" (CMA CGM)، بالاضافة إلى شركات نقل أخرى. ومنذ بداية العام الحالي، مع الهجمات المكثفة للحوثيين والضربات الأميركية والبريطانية، تتزايد المخاوف بشأن أمن الملاحة العالمية في باب المندب والبحر الأحمر.
بصورة مباشرة تتأثر الأسواق الأوروبية بقائمة طويلة من ارتفاع تكلفة بعض السلع المنتقلة عبر سلسلة توريد تعبر البحر الأحمر وقناة السويس، إذا ما اشتدت الأزمة في باب المندب.
وفقاً لمحللين في ألمانيا ودول إسكندنافية، منهم كبير محللي وكالة الشحن زينيتا، الدنماركي بيتر ساند، فإن القائمة المتأثرة طويلة "وتشمل الأثاث والشاشات المسطحة والملابس، وغيرها من المصنعة والمستوردة من شرق آسيا".
طول أمد الأزمة سينعكس على جيوب المستهلكين، إذ يمكن أن تتأخر المنتجات الغذائية مثل "اللحوم المجمدة من نيوزيلندا أو أستراليا، والتي تجد طريقها أيضا إلى طاولة طعامنا"، كما يؤكد ساند.
ويشمل ذلك التعقيد رفع الأسعار بسبب رحلة الإبحار الأطول إلى أوروبا. فمع أن ارتفاع تكلفة الشحن من آسيا إلى أوروبا بنسبة 20% مؤخرا، فإنه على المدى الطويل سوف يؤثر ذلك على أسعار المواد الاستهلاكية، وعلى معدلات التضخم في أوروبا.
وبرغم أن الأزمة الحالية في سلاسل التوريد لا تشبه تلك التي نشأت بعد حادثة جنوح سفينة إيفرغيفن (Evergiven) في قناة السويس التي امتدت لنحو ستة أيام في مارس/آذار 2021، إلا أن بعض المحللين يرون أن طول مدة الأزمة الحالية في البحر الأحمر يمكن أن يؤدي إلى أزمة عميقة في سلاسل التوريد وخطوط التجميع، وذلك يخلق فوضى لأسواق أوروبا.
ونظرا إلى أن أسعار الشحن تضاعفت في غضون أسابيع قليلة، حيث وفقا لوسيلة النقل البحري "Lloyds List"، تكلفت سفينة على متنها 6 آلاف و500 سيارة في عام 2023 ما بين 65 و70 ألف دولار عن كل يوم إبحار، فإن التأثير السلبي لن يبقى محصورا في جيوب المستهلكين، بل سيمتد إلى أضرار اقتصادية أوسع.
وبحسب مؤشرات الحاويات العالمية، فإن سعر شحن حاوية 40 قدماً من شنغهاي في الصين إلى ميناء روتردام الهولندي قفز بنسبة 23% في الأسبوع الأول للهجمات الحوثية، بينما شهدت زيادات متتالية تصل نسبتها إلى 115%.
وتأتي ضربة سلاسل التوريد، بعدما عانت الكثير من الاقتصادات من ارتفاع أسعار الفائدة ودورها في إعاقة الاستثمار العالمي. وهو ما ألحق ضررا بالصناعات التحويلية الألمانية، باعتبار أن السلع تشكل جزءا كبيرا من صادرات البلد الاقتصادي الكبير. فالصناعات في ألمانيا كانت تاريخيا محركاً رئيسياً لنمو الاقتصاد الألماني، لكن محرك النمو توقف في السنوات الأخيرة.
وتواجه الصناعة الألمانية أوقاتاً عصيبة لأنها حساسة للغاية لأسعار الفائدة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الجزء الأكثر استهلاكاً للطاقة في الصناعة الألمانية، مثل المعادن والمواد الكيميائية، لا يزال يبدو ضعيفاً. وعلى الرغم من انخفاض أسعار الطاقة، إلا أن الجزء الأكثر استهلاكًا للطاقة في الصناعة الألمانية لا يزال يعاني. فمع أن برلين شهدت زيادة في الأجور بنحو 6% إلا أن التضخم الوسطي ما يزال يراوح حول أعلى من 3%، وذلك يترافق مع مصاعب في استعادة القوة الشرائية في داخل المجتمع.
الآن، ومع نشوء مشكلة في سلاسل التوريد، بسبب الوضع غير الآمن في باب المندب والبحر الأحمر، واختيار الشركات الناقلة الالتفاف بمسافات طويلة حول رأس الرجاء الصالح، وارتفاع التأمين وأسعار نقل البضائع، ثمة نظرة أكثر تشاؤما على مستوى الصناعة في ألمانيا، كمعبر عن نظرة غير متفائلة على مستوى القارة الأوروبية ككل.
ووضع ألمانيا له أيضا تأثير دومينو في دول أوروبية أخرى تعتبرها الشريك التجاري الرئيسي، كما في بعض أنحاء الدول الإسكندنافية التي تتأثر سلباً بسلبية الاقتصاد في ألمانيا، إذ تساهم مثلا شركة ميرسك في الاقتصاد الدنماركي، وتأثر ميرسك بأزمة البحر الأحمر يؤثر أيضا على اقتصاد كوبنهاغن.
وتأثرت الدنمارك بتراجع الصناعة الألمانية مع تراجع فرص المبيعات الصناعية إلى برلين. فبين نوفمبر/تشرين الثاني 2022 ونفس الشهر من العام الماضي تأثرت الصناعة الدنماركية، إذا ما نحينا صناعة الأدوية، بتراجع بلغت نسبته 9.2% بسبب تراجع صناعات ألمانيا.