بل وأكد متحدث باسم الصندوق أن باكير بدأ عمله بالفعل في القاهرة منذ نحو شهرين تقريبًا دون أن تكشف الحكومة، وزارة المالية، أو البنك المركزي، عن هذه الخطوة، بل إن وسائل الإعلام لم تعرف بالخبر إلا عقب الكشف عن اللقاء الذي عقده باكير مع غادة والي وزيرة التضامن الاجتماعي، قبل أيام.
ولمن لا يعرف المندوب السامي، فهو ذاك الرجل الذي كان يحكم مصر من وراء ستار أيام الاحتلال الإنكليزي، وعقب إعلان الحماية البريطانية على البلاد، كان هو الحاكم الفعلي للبلاد والسلطة الأعلى، والخديوي هو الحاكم الظاهري وكان مقره بقصر الدوبارة المعروف، وارتبط لقب المندوب السامي في أذهان المصريين باللورد كرومر، السفير البريطاني في القاهرة.
أول سؤال يتبادر للذهن عقب الإعلان المفاجئ عن تعيين صندوق النقد الدولي ممثلا أو مندوبا مقيما له في القاهرة هو: لماذا أقدم الصندوق على هذه الخطوة في الوقت الحالي رغم مرور ما يقرب من عام على إبرام اتفاق بين مصر والصندوق يتيح للحكومة المصرية الحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار على ثلاث سنوات مقابل تنفيذها برنامجا للإصلاح الاقتصادي من أبرز بنوده علاج الخلل في الموازنة العامة وتقليص الاعتماد على الاقتراض الخارجي والمحلي، وخفض الدين العام المحلي، وإعادة النظر في السياسات الحكومية المتعلقة بالضرائب ودعم الطاقة والكهرباء والمياه والغاز وسياسات الاستثمار وغيرها.
هل هناك خلافات بدأت تلوح في الأفق، أو وقعت بالفعل، بين الحكومة المصرية وصندوق النقد دفعت بالصندوق إلى تعيين مندوب مقيم له بالقاهرة ليكون على مقربة من دائرة صنع القرار الاقتصادي والمالي في البلاد؟ أم أن الحكومة لم تفِ ببعض الالتزامات التي قطعتها على نفسها للصندوق وبموجبها انتزعت موافقته على منحها القرض الضخم؟
لا توجد لدي معلومات للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها وإن كانت لدينا مؤشرات سابقة على وجود خلافات لا تنكرها العين بين الطرفين ظهرت للعلن في تصريحات متناقضة بشأن موعد رفع الدعم عن الوقود ومعدلات النمو والتضخم والاستثمارات الأجنبية المستهدفة وقيمة الجنيه المصري مقابل الدولار وغيرها.
ثاني الأسئلة التي طرحتها خطوة تعيين مندوب دائم للصندوق في القاهرة هو: إذا كان تعيين الباكستاني ريزا باكير في منصبه قد تم منذ شهرين، فلماذا لم يتم الكشف عن هذا الأمر سوى الآن، هل بات صندوق النقد يستشعر خطورة على أمواله، خاصة مع توسع الحكومة الكبير في الاقتراض من الخارج والداخل والدخول في مفاوضات مع الدائنين الدوليين لتأجيل سداد الديون المستحقة لهم في العام المقبل 2018 مثل دول الخليح والصين وليبيا والبنوك العالمية وأصحاب السندات؟
أم أن الخطوة تتعلق فقط بوجود ملاحظات للصندوق على أداء الحكومة وعدم الإيفاء بالتزامات قطعتها على نفسها في برنامج الإصلاح الاقتصادي، ومنها خفض عجز الموازنة والدين العام نسبة للناتج المحلي الإجمالي وتحرير أسعار الوقود كاملة في الربع الأول من عام 2018 وتطبيق قانون الخدمة المدنية على موظفي الدولة واستقطاب استثمارات خارجية وليس فقط استقطاب أموال ساخنة من قبل الأجانب في الأذون والسندات؟
مصر لديها تجربة مريرة مع قصة الممثل المقيم لصندوق النقد الدولي؛ ففي بداية التسعينيات من القرن الماضي وإبان حكومة عاطف صدقي، تم تعيين ممثل للصندوق لمدة 6 سنوات متواصلة (1991 - 1997)، وخلال تلك الفترة شهدت البلاد موجة من الإجراءات التقشفية العنيفة التي قادها وزير المالية محمد الرزاز، من زيادة الأسعار وفرض ضرائب فلكية وتطبيق برنامج الخصخصة المثير للجدل وبيع مئات من شركات قطاع الأعمال العام وتطبيق نظام المعاش المبكر على الموظفين بالدولة وبيع بنك الإسكندرية، ثالث أكبر بنك في البلاد، وتخلص الحكومة من صناعات استراتيجية، مثل الحديد والإسمنت والأسمدة وبيع قطاع الاتصالات للقطاع الخاص.
والآن جاء الوقت ليكمل مندوب صندوق النقد الدولي مسيرته "السامية"، ويواصل الضغط على الحكومة لرفع أسعار البنزين والسولار والسلع وزيادة فواتير الكهرباء والمياه والغاز وفرض مزيد من الضرائب والجمارك والرسوم، وهو ما يساهم في زيادة حدة الفقر والبطالة بين المصريين، والأخطر من ذلك أنه جاء ليرهن القرار الاقتصادي المصري بالخارج، فالحكومة ستستشير الممثل "السامي" في القرارات الاقتصادية التي ستتخذها، وربما لن توجه استثمارات لقطاع محدد أو خدمة ما ما لم تحصل على موافقة ممثل صندوق النقد عليها.