- اليابان تتخلى عن سياساتها التيسيرية التي اعتمدت منذ التسعينيات لمواجهة الركود، معتبرة رفع الفائدة تحولاً استراتيجياً لمواجهة التحديات الاقتصادية الجديدة.
- النقاش حول "إسلاموية" الاقتصاد الياباني بسبب سياسات الفائدة يعتبر مغالطة، فالاقتصاد الياباني يقوم على أسس رأسمالية ويختلف جوهرياً عن الاقتصاد الإسلامي الذي يعتمد على مبادئ العدالة الاجتماعية وتقاسم المخاطر.
اتخذ البنك المركزي الياباني قراراً مفصلياً برفع معدلات الفائدة من السالبة إلى الموجبة للمرة الأولى منذ حوالي 17 عاماً.
يعد القرار نقطة تحول مهمة في سياسات اليابان والتي سعت على مدار فترة زمنية طويلة إلى تحفيز النمو الاقتصادي ومكافحة الانكماش الذي عانت منه بعد تسعينيات القرن الماضي.
وبينما دول تسعى بكل طاقتها لخفض الفائدة وتعاني من ارتفاعها فوق 50% هناك دول أخرى حددت فائدة دون الصفر واحتفلت برفعها فوق الصفر أخيراً!
يأتي هذا المقال في محاولة لتحليل الأوضاع الاقتصادية في اليابان وأسباب التوجه الجديد للبنك المركزي الياباني، والإجابة عن تساؤل "إسلاموية" الاقتصاد الياباني بسبب صفرية الفائدة.
ركود اقتصادي أعقبه نمو
يذهب أي بنك مركزي في العالم نحو إحدى سياستين نقديتين: إما التيسير أو التقييد، إما أن يحفّز النمو الاقتصادي ويسعى لزيادة الإنفاق في الاقتصاد، أو يعمل على تثبيط النمو وتقليل الإنفاق. إما أن يجعل الحصول على الأموال سهلة ورخيصة ومتوفرة أو العكس تماماً. إما أن يسعى لتعزيز الاستهلاك والاستثمار أو يسعى لخفضهما.
ويعمد البنك المركزي إلى تطبيق ما سبق من خلال السياسة النقدية ورفع وخفض أسعار الفائدة، والتدخل في الأسواق عبر شراء أو بيع الأوراق المالية الحكومية، والتحكم بالقاعدة النقدية والسيولة المالية.
مرة أخرى، تهدف الحكومة إلى فرض الاستقرار الاقتصادي والتشغيل العام في الاقتصاد وذلك من خلال إحياء النمو الاقتصادي وزيادة معدلات التضخم، أو الركود الاقتصادي وانكماش الأسعار.
عطفاً على اليابان فقد تعرّضت لفترات من الركود الاقتصادي في بداية التسعينيات، إثر انهيار في أسعار الأسهم والعقارات وتدهور أرباح البنوك والمؤسسات المالية، وعلى أثرها تعرّض الاقتصاد لركود حاد وانخفاض معدلات التضخم، تبنّت الحكومة من خلال البنك المركزي سياسات اقتصادية تيسيرية لتحفيز النمو ورفع الأسعار، بما في ذلك اعتماد فائدة سالبة بهدف تشجيع البنوك على الإقراض والشركات والأفراد على الإنفاق والاستهلاك بدلاً من الادخار.
وعلى الرغم من ذلك، لم تنجح تلك المساعي وأدت السياسات التيسيرية إلى تقييمات متباينة في فعاليتها. ولا تزال تجربة اليابان تحت مجهر الدراسة والبحث لمعرفة فعالية استخدام فائدة سالبة أو صفرية كأداة لزيادة التضخم إلى مستويات مستهدفة، ولإحياء النمو الاقتصادي. وواجهت هذه السياسات انتقادات بعدما أسهمت في زيادة الديون والمخاطر المالية دون تحقيق نمو ملحوظ في الأسعار أو في الاستثمار.
ولكن وبعد نحو 17 عاماً، وفي ظل الظروف الاقتصادية التي تواجه الاقتصاد العالمي بدأت الإشارات بالتوارد إلى المنظومة الاقتصادية في اليابان من خلال تحسن في معدلات النمو وتحرك التضخم إلى مستويات 2%.
وجاءت هذه السياسة في ظل تعرّض العملة اليابانية، الين، لضغوط كبيرة وانخفاض في القيمة مقابل الدولار حيث بلغ الين أمام الدولار نحو 153 ينا في إبريل/ نيسان 2024، في حين بلغ سعر الصرف في العام 2021 نحو 102 ين، وفي العام 2011 بلغ نحو 77 ينا، واستجابة للتحولات العالمية في تشديد السياسة النقدية، وأخيراً بهدف تحسين عوائد المدّخرين من خلال رفع معدلات الفائدة في مجتمع يعاني من الشيخوخة ويحتاج إلى توفير مالي أكثر فعالية للمتقاعدين.
وعليه، تحرّك البنك المركزي الياباني بتغيير السياسة النقدية المتبعة منذ عقود لبدء مرحلة جديدة وفرض الاستقرار المالي وضمان عدم خروج التضخم عن الهدف المنشود، 2%، في حال عدم اتخاذ تدابير استباقية.
"إسلاموية" الاقتصاد الياباني
لا أجزم، لكن أعتقد أن حكام البنك المركزي الياباني والمسؤولين اليابانيين لم يسمعوا بالنظام الاقتصادي الإسلامي الذي يحرّم الربا، وأنهم لم يقوموا بخطوة خفض الفائدة دون الصفر حباً بدين وتمسكاً بعقيدة. فالاقتصاد الياباني اقتصاد رأسمالي يقوم على تطبيق أدبيات السوق الحر، ويطبق نظريات نقدية للتحكم في السيولة المالية والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والمالي بطبيعة الحال، وهي أول نقطة في نفي إسلاموية الاقتصاد الياباني بشكل أو بآخر.
وتتأكد هذه الفرضية مع معرفة العديد من البلدان التي تطبق هذه السياسة وليست محصورة باليابان فحسب، ففي الوقت الذي كانت اليابان تفرض -1% على الودائع أقرّت سويسرا فائدة بمقدار سالب 0.75% وفي الدنمارك -0.6%.
ومن قال إن الاقتصاد الياباني يعتبر اقتصاداً إسلامياً بسبب سياساته المتعلقة بمعدلات الفائدة الصفرية، فقد اعتمد على تشابه سطحي جداً بين نظامين اقتصاديين مغايرين تماماً، لا يشبه أي منهما الآخر ويختلفان في الجوهر.
فالمبادئ الإسلامية تقوم على العدالة الاجتماعية وتشجيع التجارة والاستثمار، ويعتمد نظامها المالي على تقاسم المخاطر والمكاسب بين الأطراف المعنية بالاستثمار والعمل. أما في اليابان وغيرها من البلدان التي تعتمد فائدة صفرية فذريعتها مكافحة الانكماش الاقتصادي وتحفيز معدلات النمو.
ومن ثم فالاقتصاد الإسلامي يقوم على مبادئ تفوق تحريم الربا فقط، إذ يشمل مبادئ مثل الزكاة وتحريم الاحتكار والمضاربة بالاقتصاد والمشاريع المضرّة والتي يشوبها محرّمات، في حين أن الاقتصادات الرأسمالية كالاقتصاد الياباني وأي اقتصاد رأسمالي آخر لا يهتم لهذه المبادئ، ويترك للأفراد حرية العمل والاختيار والمضاربة والاستثمار في السوق.
وحتى بالحديث عن صفرية الفائدة أو سلبيتها والتي ستؤدي لتقليل أرباح المؤسسات المالية والبنوك وتشجّع على الاقتراض المفرط وتراكم الدين، تعد سياسات مخالفة في مبادئ الاقتصاد الإسلامي الذي يشدد على الاعتدال والتوازن المالي والتربح.
وهناك اختلافات جوهرية في المصطلحات بين المصارف والبنوك الإسلامية مع المصارف والبنوك التقليدية، ومن تلك المبادئ: المرابحة التي يستخدمها البنك الإسلامي كبديل عن القرض بفائدة بحيث يشتري البنك الإسلامي السلعة أو الأصل ويبيعها للعميل بربح معلوم، أما البنك التقليدي فيعرض أموال يقرضها للعميل مقابل فائدة يتقاضاها في أوقات محددة وفي حال التأخر عن السداد يتقاضى فوائد تأخير.
وهناك المشاركة وهي بديل آخر عن قرض الفائدة، حيث تعتمد هذه الأداة على تقاسم الأرباح والخسائر من استثمار معين بين البنك والعميل بنسب متفق عليها مسبقاً. وهناك عقد الإجارة والذي يقوم البنك بشراء الأصل وتأجيره للعميل مقابل دفعات دورية، وعقد الاستصناع حيث يتم بموجبه طلب مال من البنك بهدف تصنيع سلعة أو العمل على مشروع محدد.
وهناك عقد السلم الذي يتضمن عملية شراء مؤجلة يتم من خلالها دفع الثمن مقدماً مع تسليم السلع في المستقبل. وتتم جميع هذه المعاملات بما يتوافق مع مبادئ الشريعة الإسلامية التي تحض على الابتعاد عن القمار، والكحول، والغرر، والاحتكار، والتضليل.
وفي أيامنا هذه تنتشر البنوك الإسلامية في معظم بلدان العالم وتقدم للعملاء المسلمين وغير المسلمين هذه الأنواع من الخدمات، ولكن لا يوجد بلد في العالم يطبق منظومة اقتصاد إسلامية، بمعنى خلو النظام الاقتصادي بأكمله من نظام الفائدة. إذ لا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه تطبيق النظام المالي الإسلامي على مستوى الدولة بأكملها، بما في ذلك إحكام الولايات المتحدة والقوى الكبرى قبضتها على الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وتصميم المنظومة الاقتصادية الحالية على مبدأ المنتصر والقوي.
كما أن جميع النظريات الاقتصادية التي كتبت وأنتجت خلال المئة عام الماضية اعتمدت على فكرة الفائدة كأداة لضبط السيولة في الأسواق ومحفّز للنمو الاقتصادي، ولا يمكن إغفال غياب المدرسة الاقتصادية الإسلامية والعلوم العربية مع ضعف البلدان العربية والإسلامية بعد القرن السابع عشر وظهور الثورة الصناعية انطلاقاً من أوروبا، ولاحقاً انشغال العالم العربي والإسلامي بحقبة الاستعمار التي أدت لتخلف عن ركب الحضارة والتقدم، واتباع الهوية الغربية والرضوخ للمدارس الاقتصادية المنتشرة.
أخيراً، غيّر المشرّع الياباني سعر الفائدة مع بروز إشارة قوية لارتفاع التضخم والنمو في الاقتصاد، وهي حالة طبيعية في الاقتصاد تدرّس في الكتب، لا علاقة لها بالإسلام والاقتصاد الإسلامي.
يبقى علينا الاجتهاد أكثر في نقد التجربة الرأسمالية والاشتراكية، وإنتاج نظريات اقتصادية يمكن تطبيقها على مستوى الدولة بأكملها، تُراعي تعاليم ديننا الحنيف والتطور الذي وصلت له الأسواق وحالة الانفتاح والعولمة في الاقتصاد العالمي، ولها جاذبية للتطبيق في كل دول العالم.