مصر وسخاء صندوق النقد الدولي المفاجئ

27 نوفمبر 2023
صندوق النقد يدرس بجدية احتمال زيادة برنامج القروض لمصر (الأناضول)
+ الخط -

في خضمّ الحرب التي ما زالت رحاها تطحن سكّان غزة في ظلّ التعتيم الغربي والصمت العربي، تحاول المنظمات الدولية تقديم إغراءات مالية للدول العربية التي ابتلِيت بمجاورة دولة الاحتلال الصهيوني، حيث يسعى صندوق النقد الدولي لاستمالة مصر مجدّداً.

فقد أفادت المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا، في مقابلة لها مع رويترز على هامش قمّة التعاون الاقتصادي لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني، بأنّ الصندوق يدرس بجدية احتمال زيادة برنامج القروض لمصر البالغ 3 مليارات دولار إلى 5 مليارات دولار، بسبب الصعوبات الاقتصادية التي تتمخَّض عن تلك الحرب التي لم يجرؤ الصندوق على تسميتها بالإبادة الجماعية لسكّان غزة.

يتبجَّح الصندوق بمدّ يد العون لمصر مستغلّاً معاناة اقتصادها ومواطنيها من أزمة خانقة فاقمتها عدّة عوامل، كالنقص الحادّ في احتياطي العملة الصعبة الضروري للوفاء بالالتزامات الأساسية كالاستيراد وخدمة الديون المتراكمة، والذي وصلت قيمته إلى 35.1 مليار دولار في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وفقدان الجنيه أكثر من نصف قيمته مقابل الدولار خلال عام واحد، ووصول التضخُّم إلى 35.8% في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

واللافت هنا أن مد يد العون المفاجئ لمصر جاء رغم أنّ الصندوق ذاته قد اشترط سابقاً عدّة شروط التعجيزية على الحكومة المصرية قبل الموافقة على برنامج الإنقاذ، البالغة قيمته 3 مليارات دولار، في ديسمبر/ كانون الأوّل 2022، كخصخصة عشرات المؤسسات التابعة للدولة من أجل جذب تدفُّقات من النقد الأجنبي، وتخفيض قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار، واعتماد نظام سعر صرف مرن، وها هو الآن يدرُس وبشكل طوعي ومفاجئ احتمال زيادة برنامج القروض لمصر التي لها القدرة على اتِّخاذ موقف حاسم يغيِّر مجرى الحرب الإسرائيلية على غزة.

تحدَّثت غورغييفا عن تداعيات الحرب بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية على اقتصادات الدول المجاورة، كانكماش السياحة وارتفاع تكاليف الطاقة، لكنّها تغافلت بشكل مُتعمَّد عن الحديث عن نزيف الاقتصاد الإسرائيلي، ومدى فداحة الخسائر التي تطارده. واكتفت بالإشارة إلى أنّ إسرائيل ستشهد تباطؤاً اقتصادياً نتيجة استدعاء 8% من قوّتها العاملة للالتحاق بالجيش.

لكن الحقيقة التي لم تعُد تخفى على أحد هي أنّ الدول العربية المجاورة لدولة الاحتلال الإسرائيلي ليس أمامها سوى طوق النجاة الذي يقدِّمه لها الصندوق الآن بشكل استثنائي، في حين يمكن لإسرائيل الاستمرار في عدوانها مهما كلَّف الثمن، فالغرب بمنظَّماته ومؤسَّساته يقف إلى جانبها وسيتكفَّل بسداد الفاتورة التي لن تضاهي زوال البيدق الذي زُرِع في منطقة الشرق الأوسط مهما كانت باهظة.

عندما يتعلَّق الأمر بأمن إسرائيل وضمان تفوُّقها وبقائها في المنطقة، يسارع صندوق النقد الدولي إلى تقديم تنازلات تفشل كل المفاوضات التي تُعقَد في الظروف العادية في انتزاعها.

وهنا يتجلَّى خبث الغرب ولؤمه، فالأزمات الخانقة والمتلاحقة التي يتخبَّط فيها الاقتصاد المصري ليست من قبيل الصدفة، فلا يدع التعامل الغربي المتحيِّز للعدوان الإسرائيلي على غزة مجالاً للظن أنّ معاناة اقتصاد مصر ومواطنيها ليست صدفة عشوائية ارتجالية، وإنّما هي نتاج تخطيط القوى الغربية وتضافر جهودها بشكل منظَّم وفعّال ومتكامل يحول دون علوّ صوت عربي مؤيِّد للقضية الفلسطينية يمكن أن يجرّ تأييد أصوات عربية أخرى.

سبق لمديرة صندوق النقد الدولي أن وصفت تدخُّل البنك المركزي المصري لدعم الجنيه المصري المسبِّب لاستنزاف دعم احتياطيات مصر من العملات الأجنبية بأنّه "أشبه بسكب الماء في وعاء مثقوب".

وأشارت إلى أنّ تعويم الجنيه هو الترياق لوضع مصر المتأزِّم، متناسية أنّه في الواقع سمّ يؤدِّي إلى موجة غير مسبوقة من غلاء الأسعار التي ستطلق شرارة الاحتجاجات والتظاهرات الرافضة لغلاء المعيشة، والأمر الذي يحزّ في النفس ويثير السخط هو عدم إطلاقها ذلك الوصف على استخدام مصر قروض الصندوق في خدمة أعباء الديون وسداد الالتزامات الخارجية.

لم تكف غورغييفا عن التشديد على فكرة انعدام الخيارات المتاحة أمام مصر وضرورة تطبيقها وصفة الصندوق بحذافيرها، وكان من المفترض أن تجرى المراجعة الأولى لمدى التزام مصر بتنفيذ الشروط المتّفَق عليها في إطار برنامج القرض المصري في شهر مارس/ آذار 2023.

لكنها أُجِّلت إلى شهر سبتمبر/أيلول الماضي، ثم رُحِّلت إلى أجل آخر غير مسمى، وتأخير المراجعة الأولى يعني بالضرورة تأخير الإفراج عن الشريحتين الثانية والثالثة من القرض بإجمالي 700 مليون دولار، الأمر الذي يرسم صورة قاتمة للاقتصاد المصري ويثبِّط عزيمة الدائنين والمستثمرين.

موقف
التحديثات الحية

من دون الاضطرار إلى استخدام حجج تدحض الدليل على اقتران سياسات الصندوق بمصالح القوى الغربية، كتجاوز الأسباب التقنية التي تسبَّبت بتأخير المراجعة، أو إحراز مصر تقدّماً كافياً في تنفيذ البرنامج، أكَّدت غورغييفا جدية الصندوق في دراسة احتمال زيادة برنامج القروض لمصر البالغ 3 مليارات دولار بسبب تداعيات الحرب الإسرائيلية الدائرة في غزة.

الأمر الذي يؤكِّد بدوره مدى جدية الصندوق وعدم تهاونه أو تقاعسه عندما يتعلَّق الأمر بأمن إسرائيل وبقائها في المنطقة الشرق الأوسط ذات الموقع الجيوستراتيجي الحيوي، والغنية بالثروات الطبيعية التي يفتقر إليها الغرب.

سبق للأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريس، الذي حذّر من "العقاب الجماعي" للشعب الفلسطيني في أكتوبر/ تشرين الماضي، أن انتقد صندوق النقد الدولي، الذي نشأ من رماد الحرب العالمية الثانية ليشكِّل إحدى الركائز الأساسية للنظام العالمي الجديد.

وندَّد بدور الصندوق في إفادة الدول الغنية بدلاً من الدول الفقيرة، وتعكس انتقاداته آراء باقي المنتقدين الذين يرون أنّ الظلم المتأصِّل في الهيكل المالي الدولي ما هو إلاّ نتيجة لخضوع عملية صنع القرار في صندوق النقد الدولي لسيطرة الولايات المتَّحدة وحلفائها الأوروبيين، الذين زرعوا إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط ويحاربون كل من تسوِّل له نفسه اقتلاعها.

خلاصة القول، سياسات صندوق النقد الدولي، التي ساهمت بشكل أو بآخر في مفاقمة ديون مصر، ما هي إلاّ خطّة غربية محنَّكة لصناعة التبعية، واحتجاز مصر في متاهة الأزمات المتلاحقة والحاجة المستمرّة لنجدة الصندوق، الذي يقدِّم وصفات بناءً على مصالح الغرب.

المساهمون