على الرغم من نمو المدفوعات الإلكترونية في السوق المصرية خلال السنوات الأخيرة، فإن النقود لا تزال الحاكم الفعلي للتعاملات المالية في مصر، وتمثل الجزء الأكبر منها، وذلك وفق البيانات الرسمية، ما يثير تساؤلات حول إذا ما كانت مبادرة البنك المركزي أخيراً حول الترخيص بعمل بنوك رقمية في البلد قد تستقطب شرائح من العملاء، وسيولة كبيرة من السوق، ومدى قدرة الجهات الرقابية على وضع معايير تزيل مخاوف أبداها خبراء مصرفيون حيال سرية البيانات ومنع الاحتيال.
وتلقى البنك المركزي عروضاً عدة من بنوك محلية ورجال أعمال، لإنشاء بنوك رقمية. وأعلن رجل الأعمال نجيب ساويرس عن رغبته في الحصول على أول ترخيص لبنك رقمي، منتصف يوليو/ تموز الماضي، وذلك بعد ساعات من إصدار البنك المركزي، قواعد ترخيص البنوك الرقمية.
كما قال نائب رئيس بنك مصر، عاكف المغربي، في تصريحات صحافية، إن شركة مصر للابتكار الرقمي التي يرأسها، والتابعة للبنك، ستكون المسؤولة عن تدشين أول بنك رقمي.
وأشار المغربي إلى أنّ الخطوة تهدف إلى تقديم خدمات مصرفية إلكترونية، وتجربة بنكية غير مسبوقة، وجذب شرائح جديدة من العملاء، وخاصة الشباب، لإحداث نقلة نوعية في الخدمات المصرفية.
وتأتي مبادرة "المركزي" وسط مجتمع تقليدي يعشق الاحتفاظ بالنقد الورقي "الكاش". وتظهر وقفات ملايين المتعاملين في طوابير طويلة، أمام ماكينات الصرف الآلي، للحصول على رواتبهم الشهرية، حجم المخاوف التي تتملكهم من ترك مصير أموالهم إلى آلات رقمية.
وتوقع خبراء أن تقود البنوك الرقمية الأعمال المصرفية والخدمات المالية، خلال الفترة المقبلة، لاعتمادها على التطور التقني، وسرعة إتمام المعاملات المالية، مع قلة اليد العاملة، وتوفير النفقات التي توجه لشراء المكاتب والمقرات، وسهولة ربطها بالمؤسسات المالية وأسواق المال بأنحاء العالم.
في المقابل، أبدى آخرون مخاوفهم من توجه البنوك الرقمية إلى شرائح محددة من الجمهور، القادرة على التعامل مع تطبيقات الهواتف وشبكات التواصل الاجتماعي والإنترنت، في وقت تتخطى الأمية 30% من تعداد السكان، وترتفع أمية الكمبيوتر لدى الأغلبية الساحقة من المواطنين، مع كثرة الأعطال التي تحدث في شبكات الإنترنت، وقيود باستيراد المعدات الحديثة، ما يؤثر سلباً على أداء البنوك والتحول الرقمي بمؤسسات الدولة.
كما أبدى متعاملون خشيتهم من وقوع جرائم نصب إلكتروني انتشرت مؤخراً، شارك فيها بعض موظفي البنوك، وشركات أموال، رصدتها حملات إعلامية وأمنية واسعة، استهدفت حماية سمعة النظام المصرفي.
وأظهرت الحملات تطور وسائل النصب الإلكتروني، الذي مارسته عصابات دولية وعناصر محلية شملت سرقة بطاقات الائتمان، وتلقي الأموال من مواطنين لتوظيفها في المضاربة على العملات المشفرة، ثم اختفت بعد سرقة ملايين الجنيهات.
التلاعب بالحسابات
وعبّر عملاء عن خشيتهم من التلاعب بالحسابات، عبر سرقة بياناتهم الخاصة، التي ستوضع تحت مظلة رقمية واحدة، تشمل جميع تعاملاتهم المالية، يستطيع ذوو الدرجات الوظيفية المتوسطة التحكم بها، وحجب حساباتهم، دون إذن من أصحابها، أو إجراءات قضائية.
وحدد البنك المركزي قواعد ترخيص وتسجيل البنوك الرقمية، والرقابة والإشراف عليها، بأنها تأتي في ظل أحكام قانون "المركزي" والجهاز المصرفي رقم 194، لسنة 2020.
ويشترط "المركزي" الترخيص للبنك الرقمي بألا يقل رأس المال المصدر والمدفوع عن ملياري جنيه (64.6 مليون دولار)، في حالة ممارسة أعمال البنوك كافة، عدا تمويل الشركات الكبرى، وفي حالة تمويله لتلك الشركات، يتطلب مضاعفة رأس المال المصدر.
واشترط "المركزي" كذلك أن يكون المساهم الأكبر مؤسسة مالية ذات سابقة أعمال، في أنشطة مماثلة، بنسب لا تقل عن 30%، من إجمالي رأس المال، وتقديم دراسة جدوى تفصيلية، عن الشرائح المستهدفة والمنتجات المخطط إتاحتها، وخطط تكنولوجيا المعلومات، والأمن السيبراني. وتخضع البنوك الرقمية لضوابط الرقابة والقوانين نفسها، وإشراف البنك المركزي، مثل البنوك الأخرى.
في هذا الإطار، اعتبر الخبير المصرفي أحمد سامي، توجه البنك المركزي المصري لإنشاء البنوك الرقمية، إجراء تأخر منذ سنوات، بعد أن أصبحت الخدمات الرقمية داخل البنوك أمراً حتمياً في المعاملات المالية.
وأشار سامي في تصريح لـ"العربي الجديد" إلى انتشار ثقافة السحب والإيداع ودفع الفواتير وسداد المشتريات عبر بطاقات الائتمان، حتى سهلت على معاملات غير المتعلمين وكبار السن من أرباب المعاشات.
وأوضح أن البنوك الرقمية ستلغي المعاملات النقدية والورقية، بما يخفف عن الدولة تكلفة إصدار النقد وإهلاكه، ويسهل للجمهور إنهاء السحب والإيداع والاقتراض، مع ميزة تعدد منافذ البنوك الرقمية، التي تنتشر عادة أكثر من المكاتب التقليدية، مذكراً بأن هدف الحكومة خفض المعاملات النقدية، وتقليل المخاطر، وتكلفة النقد "الكاش"، والسرقات.
ولفت إلى إحصاءات رسمية حول ارتفاع عدد مستخدمي الإنترنت، ستمكن 69.5 مليون شخص من حملة الهواتف النقالة، بالإضافة إلى 2.1 مليون هاتف أرضي متصلين بالإنترنت، من الولوج إلى تطبيقات البنوك الرقمية بسهولة.
وأضاف أن شريحة الشباب ستكون الأكثر إقبالاً على البنوك الرقمية، لما تتمتع به من قدرة على استخدام التقنية الحديثة، بالإضافة إلى كبار السن والأفراد غير القادرين على الحركة، الذين سيتمكنون من إدارة حساباتهم البنكية من منازلهم.
وأدار البنك المركزي برنامجاً للشمول المالي، على مدار السنوات الأربعة الماضية، استهدف توسيع قاعدة المتعاملين مع البنوك. وأسفرت حملة شارك بها 38 بنكاً عن إصدار 45 مليون بطاقة بنكية، منها 3.9 ملايين بطاقة ائتمان بحسابات بنكية شاملة، و19 مليون بطاقة خصم، و22 مليون بطاقة للدفع مقدماً.
توسيع دائرة الشمول المالي
لكنّ محللين مصرفيين أشاروا إلى أنّ عدد المتعاملين مع البنوك بالنسبة لإجمالي السكان، ما زال ضعيفاً، بحسب مؤشر الشمول المالي دولياً.
وقال نائب محافظ البنك المركزي، رامي أبو النجا، في تصريحات صحافية مؤخراً، إنّ "المركزي" يستهدف توسيع دائرة الشمول المالي عبر البنوك الرقمية، لافتاً إلى وجود 20 مليون معاملة مالية على شبكة المدفوعات اللحظية "إنستا باي" التي أسسها البنك المركزي خلال الفترة من مارس/آذار 2022 إلى الشهر نفسه من العام الجاري، بقيمة 112.7 مليار جنيه.
ولفت أبو النجا إلى أنّ عدد محافظ الهاتف المحمول بلغت 30 مليون محفظة. وتابع أن البنك المركزي يقود 18 مبادرة لدعم 177 شركة جذبت استثمارات بنحو 800 مليون دولار، تعمل في مجال التكنولوجيا المالية، تخدم البنوك للارتقاء بمنظومة التقنية الرقمية.
بدوره، اعتبر رئيس بنك مصر، محمد الأتربي، خطوة "المركزي" تجاه البنوك الرقمية، تعزز اقتصاد رقمي تنافسي، يتماشى مع استخدام الحلول الرقمية في تقديم الخدمات المالية.
من جهتها، أبدت مصادر مصرفية مخاوفها من عدم جدية الحكومة في تنفيذ هذا التوجه الذي تطلب وجود رقم حساب واحد للجهات الرسمية والموظفين بالدولة، لم يتم العمل به منذ 5 سنوات، في ظل تعدد جهات الصرف لكبار المسؤولين والمؤسسات، وعدم التزام الحكومة بوحدة الموازنة العامة.
وأشارت المصادر إلى أن البنوك الرقمية التي نجحت تجربتها في السعودية، ومن قبل في الولايات المتحدة والصين وأوروبا، تضع رقم بطاقة ائتمان واحد لكل عميل، بحيث يسهل على البنوك معرفة حساباته، وطريقة تصرفاته المالية، ومدى التزامه بدفع الفواتير والأقساط والقروض المستحقة عليه لدى جميع البنوك الأخرى، والجهات المختلفة، ليحصل على ردود فورية عن تعاملاته وحساباته والاستجابة لطلباته آلياً، والتي من بينها إجراء التحويلات المالية، وطلب القروض، والدفع الفوري وبالتقسيط، وتغيير العملات.
وحذر مصدر مطلع في تصريح لـ"العربي الجديد" من التفاؤل المفرط بالآمال المرجوة من البنوك الرقمية، التي تحتاج إلى حماية إلكترونية وقانونية قوية لحقوق المتعاملين، وشفافية بالمعلومات، تضمن عدم المساس بأموال العملاء، دون أحكام قضائية نهائية.
وأشار المصدر إلى أن من يوقف حسابه الرقمي في الدول المطبقة لهذا النظام، يطلقون عليه "الرجل الميت"، مبيناً أن تعطل الحساب لشخص ما لا يملك نقداً في جيبه، وإن للحظات، يجرده من سبل الحياة، فلا يملك سيولة تتيح له تسديد النقل، أو السكن، أو شراء المستلزمات الحيوية.