ما زالت مصر تعاني ويلات الأزمة التي تسبب فيها محافظ البنك المركزي السابق طارق عامر، حين أوهم كل من حوله بأن مصر لديها فائض في ميزان المدفوعات، مستخدماً مليارات الدولارات الواردة في صورة أموال ساخنة في تثبيت سعر الجنيه مقابل الدولار، رغم وجود عجز ضخم في الحساب الجاري، كان يفترض أن يخصم من قيمة الجنيه بصورة مستمرة.
وبعد خروج أكثر من عشرين مليار دولار من تلك الأموال الساخنة، خلال الربع الأول من العام الماضي، حاولت مصر الاقتراض من صندوق النقد الدولي، ومن العديد من المؤسسات الدولية الأخرى، ومن الدول الخليجية "الشقيقة"، فلم تحصل إلا على القليل.
لجأت الحكومة إلى فكرة التخلي عن حصتها في العديد من الشركات الناجحة، فلم تتمكن إلا من بيع ما لا تتجاوز قيمته 2.5 مليار دولار
حاول البنك المركزي اجتذاب الأموال الساخنة مرة أخرى، تارة من خلال رفع معدلات الفائدة، وأخرى من خلال خفض سعر الجنيه مقابل الدولار، إلا أن ذلك لم يقنع إلا عدداً قليلاً من المستثمرين، حيث كانت السوق الموازية، وما زالت، تعكس أسعاراً تشير إلى إمكانية الإطاحة بكل ما تحققه تلك الأموال من مكاسب.
لجأت الحكومة إلى فكرة التخلي عن حصتها في العديد من الشركات الناجحة، فلم تتمكن إلا من بيع ما لا تتجاوز قيمته 2.5 مليار دولار، ومرة أخرى بسبب مخاوف تراجع سعر الجنيه. وبعد مرور ما يقرب من عام ونصف على بداية الأزمة، واصل الجنيه تراجعه أمام الدولار، ليفقد ما يقرب من 50% من قيمته، وواصلت معدلات الفائدة ارتفاعها، لتدفع الحكومة المصرية أكثر من 24% في آخر عطاء لأذون الخزانة.
تجاوز معدل التضخم الأساسي 40%، بينما سجل التضخم العام أعلى مستوياته على الإطلاق في شهر يونيو/حزيران الماضي، وارتفعت الديون الخارجية لأكثر من 165 مليار دولار لأول مرة في تاريخ مصر، بينما الحكومة تبذل قصارى جهدها لاقتراض المزيد لتسدد به التزامات كل شهر، بينما تبقى الموارد المطلوبة لسداد التزامات الشهر التالي في علم الغيب.
ومع تفاقم الأزمة، كان طبيعياً أن نجد أصواتاً تتحدث عن بيع قناة السويس، أو رهنها، أو تأجيرها، أو الاستعانة بجهات خارجية لإدارتها، أو لتطويرها، باعتبارها أحد أهم الأصول المصرية، وموردا أساسيا للنقد الأجنبي بالبلاد، تسعى أطراف خارجية عدة للسيطرة عليه، لأهميته الاستراتيجية، قبل ما يدره من مليارات الدولارات سنويا.
ورغم تأكيدات عدة من مسؤولين على أعلى المستويات بأن القناة ليست للبيع ولا للإيجار، وأن أي قرار في هذا الاتجاه سيتم عرضه على الشعب قبل الموافقة عليه، إلا أن كثيرين ما زالوا يتخوفون من إقدام الحكومة المصرية على تلك الخطوة، بسبب استحكام أزمة العملة في البلاد.
مع تفاقم الأزمة المالية، كان طبيعياً أن نجد أصواتاً تتحدث عن بيع قناة السويس، أو رهنها، أو تأجيرها، أو الاستعانة بجهات خارجية لإدارتها
وقبل أسبوعين، أعلن الفريق أسامة ربيع، رئيس هيئة قناة السويس، عن طرح حصة نسبتها 20% من شركة تابعة للقناة، "تماشياً مع مساعي الحكومة لتعزيز القطاع الخاص"، مضيفاً أن بيع القناة أو تأجيرها "غير وارد".
وأوضح ربيع، في مؤتمر صحافي، أن بيع حصة بنسبة 20% في شركة القناة لرباط وأنوار السفن في البورصة المصرية هو تجربة، مشيراً إلى احتمال بيع حصص أخرى في المستقبل. وقال إن الهيئة أدخلت الشركة في شركة أخرى قابضة، في الطريق لإتمام عملية الطرح.
والشهر الماضي، حولت الحكومة المصرية شركة "الرباط والأنوار" إلى شركة قطاع أعمال عام، ونقلت تبعيتها إلى شركة قناة السويس القابضة للصناعات والخدمات البحرية والاستثمار، التي وافقت الحكومة في اليوم نفسه على إنشائها، بهدف تعزيز دور القطاع الخاص في الأنشطة الاقتصادية، وتنشيط الشركات المملوكة لهيئة القناة.
وتوفر "الرباط والأنوار" للسفن العابرة لقناة السويس خدمات الإضاءة، ضمن خدمات أخرى تحتكر تقديمها، وهو ما يتم دفع ثمنه بالعملة الأجنبية، الأمر الذي يميز الشركة عن العديد من الشركات الأخرى التابعة للهيئة.
وفي العام المالي 2022/2021، حقّقت الشركة أرباحاً صافية تقترب من 400 مليون جنيه، وذلك قبل ارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه بنحو 100%، وهو ما يعني أن أرباح العام التالي ستكون أعلى كثيراً.
الأمر المؤكد هو أن السيد ربيع، أو أيا من المسؤولين الآخرين، لن يأتي إلينا في يوم من الأيام ليعلن أنهم قرروا بيع القناة، وإنما سيحدث ذلك، على الأرجح، تحت مسميات أخرى، وربما على مراحل، تشبه عملية تسخين المياه التي يسبح فيها الضفدع بالتدريج، حتى وصولها لدرجة الغليان.
الأمر المؤكد هو أن أيا من المسؤولين الآخرين، لن يأتي إلينا في يوم من الأيام ليعلن أنهم قرروا بيع القناة، وإنما سيحدث ذلك، على الأرجح، تحت مسميات أخرى
في واحدة من "الحواديت" الجميلة، كانت الأم تحاول جذب النوم لأعين أبنائها، فحكت لهم عن رب الأسرة الذي كان يعمل سائقاً على سيارته، التي ورثها عن أبيه، الذي دفع فيها "دم قلبه". كان الرجل يكد ويشقى بسيارته طوال اليوم، لكي يوفر لأبنائه لقمة العيش الشريفة، قبل أن يموت.
فلما مات، تراكمت الديون على الأبناء، فاقترحوا على أمهم أن يبيعوا السيارة، ليتمكنوا من الوفاء بالتزاماتهم تجاه الدائنين، لكن الأم رفضت. كانت وجهة نظرها أن السيارة التي اشتراها أبوهم قبل وفاته كفيلة بسداد ديونهم، لو أحسن الأبناء العمل عليها، وتبادلوا القيام بدور السائق.
رفضت الأم أيضاً فكرة تعيين سائق يقوم بهذا الدور، مؤكدة لهم أنهم لو أتوا بـ"غريب" ليقود السيارة، فسيستولى على أغلب الإيراد، ولن يترك لهم إلا القليل.
فما كان من الأبناء إلا أن قاموا ببيع أجزاء من السيارة بالتدريج، اعتماداً على أن أمهم المسنة لا تخرج، ولن ترى السيارة وقد انتزعت منها أجزاؤها اللازمة لعملها. بدأ الأبناء ببيع الإطارات، ثم الأبواب، ولما ازدادت ضائقتهم باعوا الموتور، ثم خلعوا الكراسي.
ويوما وراء الثاني استمروا في تفكيك أجزاء السيارة وبيعها، ولم يتركوا إلا بوق السيارة (الكلاكس)، وكلما شكَّت الأم في بيعهم السيارة، أرسلوا أحدهم ليستخدم بوق السيارة، ليؤكد للأم أن السيارة ما زالت موجودة تحت المنزل، بينما كانت كل أجزاء السيارة قد بيعت بالفعل لصاحب النصيب.