مصر: الفانوس فرحة رمضان المفقودة في زمن الغلاء
يراهن صناع وتجار الفوانيس على إقبال المصريين على اقتناء أفضل منتجاتهم السنوية بحلول شهر رمضان.
يعلمون أن فرحة العائلات لا تكتمل بدون "الفانوس" الذي يعلق في مداخل الحواري والبيوت ووجوده بأيدي الأطفال، الذين يتحفون به.
في شارع باب البحر، بمنطقة تل الربع الملاصقة لباب زويلة، أحد أبواب القاهرة الفاطمية العريقة، يرص التجار ما أنتجوه من فوانيس بأحجام تبدأ من 10 سنتميترات لارتفاع يبلغ 3 أمتار ويزيد.
تظهر الكميات الهائلة من الفوانيس المعروضة للبيع مخاوف كبيرة لدى الورش الصغيرة والكبيرة التي راهنت بأموالها ولجأت إلى تمويل أغلب الأعمال بقروض بنكية وديون عائلية، على تصريف منتجاتها.
راهنت المشروعات الصغيرة على دعم الصناعة المحلية من الفوانيس التي كادت تنقرض أمام غزو الفوانيس الصينية، المصنوعة من البلاستيك، التي تغني وترقص على أنغام شعبية رديئة حولت الفانوس إلى حالة من المسخ الرخيص.
فرصة ذهبية
جاءت الفرصة الذهبية لمصانع "تحت الربع" والورش التابعة لها بالقاهرة الفاطمية، بعدما فرض البنك المركزي قيودا على الاستيراد من الخارج، بسبب شح الدولار في شهر فبراير/ شباط 2022.
ورغم إزالة تلك القيود، ما زال استيراد الفانوس الصيني من المحظورات، إلا ما يأتي عبر شبكات التهريب، ففتحت الأبواب مع عودة الحنين إلى "الفانوس" المصري الذي اعتاد الآباء على شرائه ليعيد إليهم صورة عزيزة منذ عصور قديمة، حينما كان البشير ينزل من جبل المقطم حاملا الفانوس ليلة الرؤية، فيعلم الناس أن الغد هو الأول من شهر الصيام المبارك.
أحدث الصناع ثورة جديدة في أعمالهم، حيث عادت صناعة الفانوس من النحاس والصاج "الحديد الخفيف"، والخشب "الأركيد" والبلاستيك، وأقمشة الخيام المطرزة والمزركشة، بنقوش الفنون الإسلامية. تبارى فنانون وعمال في تصنيع الفوانيس من الخيزران وسيقان التمر حنة والبوص.
في ورشة صغيرة على جوانب شارع باب البحر الذي يقصده تجار الفوانيس من كافة المحافظات للحصول على الكميات المتوقع تسويقها، يقف إبراهيم، الرجل الخمسيني، أمام منضدة مرتفعة، يطلي أحد الفوانيس الحديدية، التي يضع عليها لمساته الأخيرة قبل عرضها أمام الورشة.
يرص إبراهيم الفانوس بجوار عشرات الكميات التي لم يصرفها منذ أيام، متطلعا إلى أن يتحرك الجمهور في موسم رمضان لشراء الفوانيس، وفقا لعادتهم القديمة. يبين إبراهيم فرحته بعودة "الصنعة" من جديد إلى ورش المنطقة التي فقدت رونقها على مدار عقدين، بسبب غزو الفوانيس الصينية، رديئة الجودة والذوق، وأقبل الناس عليها لرخص أسعارها وتنوع أشكالها، وقدرتها على الغناء.
يقول إبراهيم لـ"العربي الجديد": عاد الصناع إلى مهنتهم، بعد حصولهم على قروض خصصتها الدولة لتمويل المشروعات الصغيرة، فأتوا بمعدات حديثة، تستطيع تقطيع الحديد والخشب والبلاستيك ورسم الأشكال بالليزر.
تمكنت الورش من صناعة الفوانيس الضخمة، بأشكال متعددة، باستخدام "اسطامبات" (أشكال نمطية محفوظة على الكمبيوتر)، إذ طوعت التكنولوجيا الحديثة لجعل الفوانيس تغني وتصدر الأصوات، فجمعت بين عراقة الشكل وحداثة المضمون.
يبدي إبراهيم حسرته على وجود كميات هائلة في ورش التصنيع، بعدما فشلت المعارض في تصريف الكم الهائل من المنتجات، وقال: زاد العمل في زمن الركود.
السوق غير مشجع
يشرح شاب يتاجر في الفوانيس لــ"العربي الجديد" قائلا: حالة السوق غير مشجعة، ولا أعتقد أننا ونحن قد دخلنا في بداية الصوم، أن يأتي التجار أو المشترون لحمل كل هذه المنتجات في لحظات.
يقول في أسى: زرعنا في الوقت الخطأ، رغم أننا تحملنا الارتفاع الشديد في أسعار الخامات، التي زادت بنحو 150%، عن العام الماضي، وخاصة الصفيح المجلفن والبلاستيك والأصباغ والأسلاك والأدوات الكهربائية. يبين الشاب الثلاثيني، الذي رفض ذكر اسمه، أن ما يهدد الصناع هو كثرة الديون وعدم القدرة على تصريف منتجاتهم، حتى مع حلول شهر رمضان، حيث ألقت المشاكل المالية على أرباب الأسر بظلالها على أسواق الفوانيس، التي كانت تدخل البهجة إلى قلوب الجميع.
يشير البائع إلى تعدد أسعار الفوانيس وفقا للحجم، يبدأ بسعر 3000 جنيه لفانوس الصاج والزجاج المعشق بارتفاع 280 سنتيمترا الذي يوضع في مداخل العمارات، يرتفع إلى ما بين 5 – 10 آلاف جنيه إذا كانت خاماته من النحاس الأصفر، ويصنع يدويا ليوضع ببهو الفنادق والقصور (الدولار = نحو 30.92 دولارا).
وتتوسط ذلك فوانيس صاج، تراوح أسعارها ما بين 500 و1500 جنيه، ثم الأكثر مبيعا وهي التي تراوح ما بين 100 و300 جنيه، وتتميز بإمكانية تحويلها إلى مصابيح كهربائية أو تغيير قاعدتها لتصبح مركز إضاءة على المكاتب.
ركود المبيعات
يأمل الصناع بأن يحولوا جزءا من منتجاتهم الراكدة إلى مصابيح إضاءة، بعد انتهاء مبيعات شهر رمضان، حتى لا تتآكل بفعل الصدأ، ويسددون جزءا من ديونهم، والتخلص من المخزون وعدم تحملهم تكاليف التخزين للموسم المقبل.
لم يختلف مشهد مبيعات الفوانيس في الشوارع والمراكز التجارية إلا في تسعير المنتجات، التي تباع بضعف أسعارها في المراكز التجارية الكبرى عن مثيلتها في المناطق الشعبية والميادين، غير طريقة العرض والتغليف. وظهرت في الشوارع بقايا منتجات صينية راكدة من سنوات سابقة، ارتفعت قيمتها متأثرة بالتدهور في قيمة الجنيه، الذي فقد 97% من قيمته منذ فبراير/ شباط 2022، عقب وقف استيراد الفوانيس من الخارج ووضع قيود على الاستيراد.
ويأتي ذلك في ظل التراجع الشديد لدخول المواطنين، مع انهيار قيمة العملة وارتفاع الأسعار، حيث جاءت الفوانيس الخشبية الصغيرة التي تبدأ أسعارها من 20 جنيها إلى 100 جنيه حلا مفيدا لأرباب الأسر الذين يحرصون على إثارة البهجة في نفوس الأطفال وإمتاعهم بالقليل مما حصلوا عليه في طفولتهم، مقتنعين بأن بهجة رمضان لا تتم إلا بحمل الفوانيس والغناء مع أحبائهم.. أهلا رمضان.
موجات تضخم متتالية
ويواجه المصريون أزمات معيشية متفاقمة بسبب تدهور الجنيه مقابل الدولار وموجات الغلاء المتتالية والتي حرمتهم من عادات معيشية عديدة، ومنها شراء الفوانيس والتمور والحلويات في موسم الصيام.
وارتفع الدولار مقابل الجنيه المصري بنحو 97.7% بالتزامن مع حلول ذكرى التعويم في 21 مارس/ آذار من العام الماضي، وأمس الخميس، بلغ سعر صرف الدولار 30.92 جنيهاً وفق موقع البنك المركزي، مقارنة مع 15.66 جنيهاً قبل عام واحد.
وتدخل البنك المركزي، منذ مارس/ آذار الماضي، ثلاث مرات لخفض العملة المحلية، الأولى في 21 مارس/ آذار وصولاً إلى سعر 19.65 جنيهاً للدولار، والثانية في 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي وصولاً إلى سعر 27.60 جنيهاً للدولار، والثالثة في 11 يناير/ كانون الثاني من العام الجاري وصولاً إلى سعره الحالي.
وساهم ذلك في ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات قياسية، إذ أكد البنك المركزي المصري أن المعدل السنوي للتضخم الأساسي سجل 40.3% في فبراير/ شباط 2023 مقابل 31.2% في يناير/ كانون الثاني.
وحسب بيان الجهاز المركزي للإحصاء الحكومي، فإن أهم أسباب ارتفاع التضخم تعود إلى زيادة أسعار مجموعة الحبوب والخبز بنسبة 9.2%، ومجموعة اللحوم والدواجن بنسبة 29.7%، ومجموعة الأسماك والمأكولات البحرية بنسبة 19.5%.