عندما يتراجع المنحنى الاقتصادي، وَتَميلُ مؤشّرات النمو نحو الانحدار، ترى الناس سكارى وما هم بسكارى. وتسألهم عن الفرق بين التراجع الاقتصادي والركود الاقتصادي الأشد وطأة، فيقولون لك إن التباطؤ يحصل عندما يكون جارك أو صديقك بلا عمل. أما الركود فيحصل عندما أصبح أنا بلا عمل.
فالحكم على الأمور ودرجة شدّتها أو رخائها معتمدٌ على العامل النفسي الناشئ عن التجربة الشخصية.
ونقرأ كثيراً اقتباساتٍ دوليةً تعطي أرقاماً عن حجم الفساد وكلفته ومقاديره، ونسمع كذلك من منظمات غير حكومية (NGOs)، مثل منظمة الشفافية الدولية، مؤشّراتٍ عن الفساد، وجداول تصنف دولاً كثيرة حسب ترتيبها في درجة الشفافية فيه، مثل "الرقم القياسي الإدراكي للفساد" أو (International Perception Corruption Index).
أكثر القطاعات إغراء للفساد والرشوة وانفتاحاً عليهما هي قطاعات البترول والمعادن، ثم الدوائر الحكومية
وفي عام 2020، شمل هذا الرقم 180 دولة، واعتلت نيوزلندا القائمة أنقى دولة من الفساد. ولكن هنالك من ينتقد صوابية هذه التمارين التي تعتمد على الانطباعات للمتعاملين مع الدول.
ويسأل في العادة أشخاص متعاقدون مع منظمة الشفافية الدولية عدداً معيناً من المستثمرين والأجانب عن انطباعاتهم عن حجم الفساد في دولة ما. ولذلك يصبح التساؤل عن دقّة هذه الأرقام وانطباقها مع الواقع موضع تساؤل.
أرقام مشكوك فيها
وقد أجرى المركز السويدي (U-4)، والمسمّى باللغة الإنكليزية (Anti-Corruption Resource Center)، دراسة قام بها باحثان، هما سيسيل واثني ( Cecile Wathne)، وماثيو ج. ستيفنسن (Mathew G. Stephenson)، بكتابة تقرير مهم جداً للتحقق من صوابية الأرقام المنشورة عن الفساد، والتي يتبنّاها مسؤولون كثيرون في العالم، بدءاً من الأمين العام للأمم المتحدة، ورؤساء منظمات دولية، وبعض زعماء الدول وكبار المسؤولين فيها.
وقد اختار الباحثان عشرة أرقام متداولة عن الفساد وحققوا فيها، وفي مصادرها. وقد وجدوا أن معظم الأرقام لا يمكن تحديد المصدر الذي أنشأها أو نَشَرَها.
ويَعْجبون كيف استطاعت هذه الأرقام أن تصبح جزءاً مقبولاً من الجهات الدولية والمحلية ومراكز الدراسات، من دون أن يكلف أحد منهم نفسه عناء البحث عنها، والتأكد من مصدرها.
كلما زادت القوانين الضريبية والاستثمارية تعقيداً وطولاً، ارتفعت نسبة الفساد بسبب قدرة المسؤولين فيها بمساعدة أصحاب المصالح على إيجاد ثغرات
وكذلك بيّن الباحثان سيسيل واثني وماثيو ج. ستيفنسن أن الأرقام التي استنتجت من الدراسة الكمية (النماذج الاقتصادية الرياضية) لم تكن مقنعة بالقدر الكافي، ولا كانت السلاسل الزمنية لهم متاحة.
ولهذا، يدعو الكاتِبان إلى تكثيف الدراسات ووسائل جمع الإحصاءات عن الفساد لتعطي معلوماتٍ أدقّ وأكثر مقبولية. وإلا فإن الثقة بما يُنشر من أرقام ونسب عن حجم الفساد ومدى استشرائه لن تكون موضع ثقة من الجماهير، ولا من المسؤولين الذين يعتمدون عليها لبناء سياساتهم لمكافحة الرشوة والفساد، ومنع تهريب الأموال وتبييضها، والحدّ من الابتزاز الذي يمارسه الموظفون العامون على العاملين والمستثمرين في القطاع الخاص.
تشكيك في حجم الرشوة
ومن الأرقام التي شكّك فيها الباحثان أن حجم الرشوة في العالم يساوي تريليون دولار سنوياً، وأن حجم الرشوة والابتزاز والتهرّب الضريبي وتبييض الأموال يساوي 2.6 تريليون دولار سنوياً، منها 1.6 تريليون تحدث في الدول النامية.
وفي دراسة نشرت في مجلة "التمويل والتنمية" أو "Finance & Development" الصادرة عن البنك وصندوق النقد الدوليين، يبيّن الباحثون الثلاثة ماورو وَميداس وَفورييه (P. Maoro P.Medas & J.M Fourier) في هذه الدراسة المنشورة عام 2019 قضايا واستنتاجات عامة مفيدة في بحث الفساد، من دون السعي إلى تقديم أرقام أو نسب تبين حجم الفساد حول العالم، علماً أن عنوان الدراسة كان "كلفة الفساد" أو "Cost of Corruption".
الدول المتقدّمة أقل فساداً من الدول متوسطة الدخل والتقدّم، وهذه بدورها أقل فساداً من الدول الفقيرة
والاستنتاجات الثلاثة التي توصل إليها الباحثون الثلاثة هي:
أولاً: المُلاحظ أن حجم الفساد ونسبة انتشاره يتناسبان عكسياً مع مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي للدولة. وبمعنى آخر، الدول المتقدّمة أقل فساداً من الدول متوسطة الدخل والتقدّم، وهذه بدورها أقل فساداً من الدول الفقيرة.
ثانياً: أكثر القطاعات إغراء للفساد والرشوة وانفتاحاً عليهما هي قطاعات البترول والمعادن، ثم الدوائر الحكومية المتعاملة بمبالغ مالية وثروات كبيرة، ومن بعدها دوائر العطاءات واللوازم (المشتريات) الحكومية.
ثالثاً: كلما زادت القوانين الضريبية والاستثمارية تعقيداً وطولاً، ارتفعت نسبة الفساد بسبب قدرة المسؤولين فيها بمساعدة أصحاب المصالح على إيجاد ثغرات، أو تفسيرات، أو تعديلات تتيح لهم أن يبرّروا قراراتهم المدفوعة بإغراء الرشوة.
ومع أن الباحثين يقدّمون أرقاماً إجمالية عن حجم الفساد والرشاوي، إلا أنهم استعانوا بأمثلةٍ اشتهرت عالمياً، وتسببت في جدل قانوني وأخلاقي كثيرين على المستويين، المحلي والدولي.
أبرز قصص الفساد
من أبرز هذه الحالات قصص الفساد في شركة النفط البرازيلية (بتروبراس) Petrobras، وهي شركة حكومية تسيطر عليها الدولة وتعمل في مجال التنقيب واستكشاف النفط ونقله وتصنيعه وتصديره إلى الخارج.
وهناك قصة فساد مسؤولين يابانيين في سبعينيات القرن الماضي، حين قبلوا رشوة من شركة طيران أميركية لشراء طائرات مدنية منها لصالح شركة طيران يابانية حكومية.
وأدت القصة هذه إلى فوز مشروع قانون في الكونغرس الأميركي بتحريم الرشوة للمسؤولين الأجانب، وتجريم رجل الأعمال الأميركي الذي يمارسها، وكل من ساعده في ذلك. الوطن العربي غير النفطي لا يقع في مراكز متقدّمة على الرقم القياسي للفساد. بل كثير منها يقع في ذيلها.
وللأردن مركز متوسط. وقد يكون من المفيد للدول العربية الراغبة في معرفة حجم الفساد فيها أن تبدأ بدراسة الأمر بأسلوبٍ إحصائي دقيق، وبمنهجية علمية صحيحة.