استمع إلى الملخص
- تواجه الحكومة تحديات مالية تشمل العجز المتفاقم في الموازنة، التضخم، وارتفاع غلاء المعيشة، مما يؤثر على القدرة الشرائية للمواطنين في ظل تراجع قيمة الدينار.
- يشهد السوق السوداء للعملة الصعبة ارتفاعاً في أسعار اليورو والدولار، ولم يقدم مشروع القانون حلولاً جذرية، مما يترك الطبقات الفقيرة والمتوسطة دون حلول ملموسة.
تمخَّض اجتماع مجلس الوزراء الجزائري، الذي تناول مشروع موازنة (قانون المالية) لسنة 2025 في السادس من أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي، عن نموذج مالي ظاهره استمرار السخاء المالي وباطنه بقاء الأوضاع الاقتصادية الراهنة على ما هي عليه. وتتمثَّل أبرز ملامح هذا المشروع في الابتعاد التامّ عن الزيادات الضريبية التي تمسّ الحياة اليومية للمواطنين، ومنح تحفيزات وإعفاءات ضريبية للمؤسّسات الناشئة وحاضنات الأعمال، واستحداث الوكالة الوطنية للتوازنات الكبرى لميزانية الدولة والاستشراف والتخطيط بغية متابعة الميزانيات الفرعية والقطاعية، وإنجاز مليوني مسكن، وخلق 450 ألف منصب عمل جديد، ورفع كل من المنحة السياحية لفائدة المسافرين ومنحة حجَّاج بيت الله الحرام ومنحة الطلبة داخل الوطن وخارجه.
في الواقع، ينمّ مشروع موازنة 2025 عن أنها ستكون أكبر من سابقاتها لتتمكَّن فعلياً من تغطية النفقات المرتقبة التي تصل بشكل غير مسبوق إلى 16794.6 مليار دينار جزائري (126 مليار دولار)، لتجد بذلك حكومة الوزير الأوّل نذير العرباوي نفسها أمام ثلاثة اتِّجاهات يصعب، إن لم يكن مستحيلاً، التوفيق بينها: رصد المبالغ المالية المطلوبة، والإصلاح الشامل والسريع للمنظومة الجبائية لتغطية نفقات التسيير على الأقلّ دون إلحاق الضرر بالطبقات الوسطى والفقيرة، وإيجاد حلّ لسدّ العجز المتفاقم الذي يُسجِّله مشروع موازنة 2025 والمُقدَّر بـ8271.5 مليار دينار (62 مليار دولار)، دون اللّجوء لسياسة التمويل غير التقليدي، علماً أنّ هناك ارتفاعاً خطيراً بنسبة 37.86% في هذا العجز مقارنة بنظيره المُسجَّل في موازنة 2024 والذي قُدِّر بأكثر من 6000 مليار دينار (45 مليار دولار).
ففي ظلّ استحالة كل من التخلُّص النهائي من الاقتصاد الريعي والتبعية للمحروقات وترشيد إنفاق موازنة الدولة، نظراً لضرورة الوفاء بالوعود التي قطعها الرئيس خلال حملته الانتخابية، سيكون التحدِّي الأوّل والأهمّ الذي تواجهه الحكومة هو التوصُّل إلى طريق للخروج من متاهة علاج عجز الموازنة العامة وتصحيح المسار المالي.
ويكشف مشروع موازنة 2025 بشكل جليّ وواضح عن رغبة الحكومة في ضمان الاستقرار الاقتصادي، ومواصلة التنمية بوتيرة متزايدة وإعطاء دفعة قويّة للإنتاج والاستثمار، وإظهار إدارة مالية صارمة وشفّافة تتماشى مع تطلُّعاتها لتحسين كفاءة الإنفاق العام، لكن سرعان ما تصطدم تلك الرغبة المُحاطة بتفاؤل التوقُّعات الاقتصادية للعام القادم بجدار التحدِّيات المالية التي تفرضها عوامل عدّة، مثل استعصاء إيجاد حلول مبتكرة لتعزيز الإيرادات وتخفيف الأعباء المالية، وفشل مساعي الحكومات المتعاقبة منذ عقود في رفع صادرات البلاد غير النفطية التي لم تتجاوز 5.058 مليارات دولار بحسب التقرير السنوي لبنك الجزائر لسنة 2023، أي نصف ما كان مخطَّطاً له في سنة 2023 وأقلّ بنحو 15.4% ممّا تمَّ تسجيله فعلياً في عام 2022.
يستهدف مشروع قانون المالية لسنة 2025 تحقيق نمو اقتصادي بنسبة 4.5%، أي ما يفوق بقليل نسبة 4.2% المتوقَّعة في قانون المالية لعام 2024، لكن يجب الإشارة إلى أنّ الأثر التثبيطي للزيادة غير المسبوقة في النفقات الجارية (نفقات التسيير) غير المنتجة قد يتفوَّق على الأثر التحفيزي للزيادة المعتبرة في النفقات الرأسمالية (نفقات التجهيز)، الأمر الذي قد يعرقل بشكل جدِّيّ تحقيق ذلك الارتفاع المُخطَّط له في ما يتعلَّق بالنمو الاقتصادي، هذا علاوة على التراخي الذي سيُحدثه التضخُّم الآخذ في الارتفاع بلا هوادة في معدّل النمو الاقتصادي، فلم تخرج الحكومة لحدّ الآن بخطّة مدروسة وواضحة وقابلة للتنفيذ للتخفيف من حدّة التضخُّم الذي من المتوقَّع أن يصل إلى 7.55% في نهاية السنة الجارية وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي.
من ناحية أخرى، ينجح كل من التضخُّم وغلاء المعيشة كل مرّة في أخذ أضعاف ما تضعه الحكومة في جيب المواطن من خلال مِنَح البطالة، الزيادات في الأجور، والاستمرار في دعم المواد الأساسية واسعة الاستهلاك، فلم تتمكَّن مساعي الحكومة الحثيثة لتجسيد الطابع الاجتماعي للدولة من وضع حدٍّ لمعاناة المواطنين من تهاوي القدرة الشرائية التي سقطت فعلياً للحضيض بفعل تهاوي قيمة الدينار الجزائري الذي يواصل اتِّجاهه التنازلي، وجشع المضاربين، وضعف تنظيم السوق الداخلية، والاحتكارات الناتجة عن غياب الرقابة، وسياسة خنق الاستيراد الهادفة مبدئياً للتباهي بصعود احتياطي النقد الأجنبي، والتي ساهمت بلا شكّ في ارتفاع أسعار العديد من السلع والمنتجات المحلية في ظلّ غياب المنافسة الحرّة.
في هذه النقطة تحديداً، لا بُدَّ من تسليط الضوء على تكالب العديد من التجَّار على رفع أسعار السلع المستوردة بمجرَّد ارتفاع سعر صرف اليورو والدولار في السوق الموازية التي تُعدّ الملاذ الأوّل والأخير للباحثين عن العملات الصعبة، في ظلّ الافتقار التامّ لمكاتب الصرف المعتمدة التابعة لبنك الجزائر، لتَكرَّ على أثر ذلك مسبحة الغلاء.
في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قفز سعر بيع اليورو الواحد بشكل جنوني إلى 260 ديناراً، بينما وصل سعر بيع الدولار الواحد إلى 225 ديناراً بالسوق السوداء في الوقت الذي يستقرّ فيه سعر العملات بالبنك المركزي الجزائري، أما السائل عن شراء هاتين العملتين فلن يُهمين عليه سوى الشعور بالإحراج والإحباط نتيجة الرفض الفوري لطلبه.
يرجع سبب جنون السوق السوداء للعملة الصعبة إلى زيادة الطلب، وتزايد وتيرة استيراد السيارات المستعملة لأقلّ من ثلاث سنوات في ظلّ تجميد استيراد السيارات وشلل صناعتها في الجزائر، وانتشار إشاعة حذف صفر من العملة الوطنية لشفط أموال بارونات السوق السوداء ومساءلتهم.
ونظراً لعدم القدرة أو عدم الرغبة في حلّ مشكلة سوق الصرف غير الرسمية في الجزائر بشكل جذريّ، اكتفى مشروع قانون المالية لسنة 2025 باللُّجوء إلى مسكِّنات ضعيفة المفعول تتمثَّل في رفع المنحة السياحية التي يحصل عليها المسافرون مرّة واحدة في السنة، والتي من المُستبعد تماماً أن تتجاوز الـ500 يورو، وحظر كل من البيع والتنازل عن السيارات المستوردة لأقلّ من ثلاث سنوات قبل انقضاء ثلاث سنوات من تاريخ اقتنائها.
خلاصة القول، لا يحمل مشروع موازنة 2025 أيّ جديد في جعبته للطبقات الفقيرة والمتوسِّطة الراغبة في الإفلات من براثن الغلاء الفاحش، ولا للمواطنين التوَّاقين لاقتناء سيارة جديدة بالأسعار المعمول بها في كل أنحاء العالم.