وضعت عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من الحرب الشرسة على قطاع غزة كلا الإدارتين؛ إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن وحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ورطة حقيقية.
وحتى الآن يتردد بايدن في إعطاء الضوء الأخضر لبدء العملية العسكرية البرية التي ينوي الجيش الإسرائيلي شنها على قطاع غزة، إذ إن تداعيات العملية البرية لا يمكن حساب عواقبها على الصعيد الميداني والسياسي والاقتصادي والرأي العام العالمي، خاصة أن الانتخابات الرئاسية في أميركا باتت على الأبواب.
كذلك يتخوّف بايدن من أن تقود الحرب إلى خسارة أميركا لموقعها في قيادة "النظام العالمي" المتهاوي وتسمح بصعود تحالف "بكين ـ موسكو" المناوئ لواشنطن.
وحتى الآن جلبت خطوات دعم واشنطن اللامحدود لحرب إسرائيل التي لا يدعمها القانون الدولي والأعراف الإنسانية، غضباً شعبياً في عواصم الغرب، وباتت جرائم دولة الاحتلال في غزة مكشوفة أمام الرأي العام الغربي.
ووفق تقارير إعلامية غربية صادرة عن مؤسسات عدة، منها بلومبيرغ وفورتشن والإيكونومست، فإن الولايات المتحدة تسعى للتخلّص من هذه الورطة عبر سيناريو إقناع حكومة نتنياهو بعدم خوض الحرب البرية واللجوء إلى سيناريو شبيه بسيناريو حرب الخليج الأولى، الذي أقنعت فيه واشنطن القيادة المصرية بالموافقة على التدخل العسكري الغربي في الحرب مقابل حصول مصر على مبالغ مالية ومعونات دولية وإعفاءات سخية للديون، وهو السيناريو الذي استخدمته واشنطن وقتها لإقناع الرئيس حسني مبارك بعدم معارضة التدخل العسكري الغربي ضد العراق وحصل بموجبه على حزمة مالية مغرية.
واشنطن تسعى لاقناع مصر بالحصول على مبالغ مالية ومعونات دولية وإعفاءات سخية للديون مقابل تهجير سكان غزة
وحسب تقرير حديث بوكالة "بلومبيرغ"، حصلت حكومة مبارك وقتها على إعفاءات بلغت نصف ديونها المقدرة بـ 20.2 مليار دولار المستحقة للولايات المتحدة وحلفائها في عام 1991. وكان هذا السيناريو الذي مررته واشنطن واحداً من أكثر حالات تخفيف الديون سخاءً في تاريخ الدول الدائنة.
وأرادت الولايات المتحدة من خلال ذلك السيناريو مكافأة مبارك على دوره المحوري في توحيد الدول العربية ضد صدام حسين وتعويض مصر عن الخسائر المالية الفادحة التي تكبّدتها في الحرب.
في ذات الصدد، يقول تقرير بمجلة "فورتشن" الأميركية، في بداية الأسبوع الجاري، تحدثت الحكومة الإسرائيلية مع نظرائها في العديد من البلدان بشأن إيواء مصر مؤقتاً للفلسطينيين في غزة، وفقاً لمسؤولين مطلعين على الأمر.
ويقول التقرير، اقترحت إسرائيل نقل سكان غزة إلى معسكرات في شبه جزيرة سيناء، بتمويل من الأمم المتحدة والولايات المتحدة ومن ثم إعادتهم بمجرد انتهاء العمليات العسكرية.
وكشف معهد "مسغاف" الإسرائيلي لبحوث الأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية، يوم الاثنين، تفاصيل للخطة الإسرائيلية المرتقبة لتهجير سكان قطاع غزة كافة، وتوطينهم داخل مصر وحتى في مدن بالقاهرة، مقابل مساعدات اقتصادية وصفت بأنها غير مسبوقة، في ظل ما قالت إنه فرصة دولية وإقليمية مواتية.
ونشر المعهد الخطة عبر دراسة تحت عنوان "خطة التوطين والتأهيل النهائي في مصر لجميع سكان غزة: الجوانب الاقتصادية". كذلك كشفت الدراسة أن إسرائيل ستستغل أرض غزة بعد تفريغها من سكانها للاستثمار فيها من خلال بناء مستوطنات ومجمعات سكنية عالية الجودة للإسرائيليين، ما سيعطي زخماً هائلاً للاستيطان في النقب.
ومن غير الواضح ما إذا كانت إسرائيل قد طرحت فكرة التهجير مقابل مساعدات مالية مباشرة على مصر، أم لا، ولكن تقارير غربية قالت إن واشنطن تباحثت مطولاً حول الخطة مع القيادة المصرية، التي ترفض حتى الآن العرض الأميركي.
تقارير غربية قالت إن واشنطن تباحثت مطولاً حول خطة الدعم المالي مع القيادة المصرية، التي ترفض حتى الآن العرض الأميركي
وهنالك شكوك حول ما إذا كان عرضاً كهذا يمكن أن يقود تلقائياً إلى تصفية القضية الفلسطينية، كما أن الصفقة تحتاج إلى موافقات إقليمية.
في هذا الشأن، قالت ميريت مبروك، مديرة برنامج مصر في واشنطن التابع للحكومة الأميركية لمجلة فورتشن يوم 22 أكتوبر: "من الواضح أن الأمل من جانب إسرائيل والولايات المتحدة، كان أن تقبل مصر حوافز اقتصادية، في وقت تعاني فيه من أزمة اقتصادية، للسماح لسكان غزة بالدخول إلى مصر".
من جانبه، يقول تقرير بمجلة "الإيكونومست" إن واشنطن تأمل أن يقود الوضع المتردي للاقتصاد المصري وضغوط تراجع سعر صرف العملة المصرية إلى 47 جنيهاً للدولار والتضخم المرتفع إلى موافقة القيادة المصرية على مقايضة قبول اللاجئين من سكان غزة مقابل حزمة مالية كبيرة، قد تصل إلى إعفاء الديون المصرية وتمويلات سنوية كبيرة.
ويبلغ معدل التضخم السنوي في مصر حالياً 38%، وهو أعلى مستوى له على الإطلاق؛ فالجنيه المصري يتراجع باستمرار، حيث يطبع البنك المركزي النقود لتغطية فواتير الحكومة المفرطة من دعم الخبز ودعم الشركات المملوكة للدولة.
وفي ذات الوقت يرفض صندوق النقد الدولي، الذي وافق على خطة إنقاذ بقيمة 3 مليارات دولار في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، تسليم القسطين الأخيرين لمصر، بحجة أن الاقتصاد المصري يفتقر إلى الثقة في سداد قروضه، كما أن القاهرة لم تف بخطة الإصلاح التي قدمتها للصندوق مقابل الحصول على القرض.
يرفض صندوق النقد الدولي، تسليم القسطين الأخيرين لمصر، بحجة أن الاقتصاد المصري يفتقر إلى الثقة في سداد قروضه
وحسب الإيكونومست، هنالك 3 تحديات يتعين على واشنطن التغلب عليها، وهي: أولاً، أن السيسي ربما لم يشعر باليأس بعد من تحسين الوضع الاقتصادي. وقد يكون الاقتصاد المصري يعاني، ولكن الحكومة ليست في خطر مباشر من التخلف عن السداد، كما كان الحال في عام 1991. وليس أمامها سوى القليل من المدفوعات الكبيرة التي يتعين عليها سدادها حتى العام المقبل 2024، كما أن احتياطاتها الأجنبية البالغة 30 مليار دولار تكفي لتغطية أربعة أشهر من الواردات.
ومن التعقيدات الأخرى، أن مصر لا تدين لأميركا حالياً بالكثير من الديون، ويأتي أغلب اقتراض مصر من بنوك خاصة وسندات دولية، وهذا يعني أن أميركا غير قادرة على تقليص ديون مصر.
ويأمل بعض الدبلوماسيين أن يقوم وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بدلاً من ذلك بتسريع وتيرة حصول مصر على الأموال من صندوق النقد الدولي، أو حتى اقتطاع بعض الأموال من الـ 16 مليار دولار التي تدين بها القاهرة للمؤسسات متعددة الأطراف، أو القيام بضخ أموال جديدة إلى مصر، ولكن ذلك قد يواجه معارضة داخل الكونغرس الأميركي..
أما التحدي الثاني، فهو يتعلق بالدول التي لديها ديون على مصر. وحسب مجلة "الإيكونومست"، يأتي أكثر من نصف الاقتراض الخارجي لمصر، وجميع احتياطاتها الأجنبية تقريباً، من الإمارات والسعودية.
وقد وضعت كل من الدولتين مليارات الدولارات من الودائع في البنك المركزي المصري؛ من بينها 5 مليارات من السعودية. وهناك مفاوضات لاقتراض 5 مليارات دولارات جديدة من البنوك الإماراتية.
ويرى التقرير أن من الممكن الضغط على القاهرة عبر سحب هذه الاحتياطات، وبالتالي فإن أي صفقات ستحتاج إلى مشاركة دول المنطقة.
وتستضيف مصر بالفعل حوالي 9 ملايين لاجئ ومهاجرين آخرين من دول مثل سورية والسودان واليمن وليبيا. وقد يشكل فتح طريق أمام الفلسطينيين خطراً أمنياً جديداً في شبه جزيرة سيناء.
من التعقيدات، أن مصر لا تدين لأميركا حالياً بالكثير من الديون، ويأتي أغلب اقتراض مصر من بنوك خاصة وسندات دولية
أما التحدي الثالث والأخير فهو أن مصر تحتاج إلى تطمينات، بأنها لن تترك لتتعامل مع لاجئي غزة بمفردها، وبالتالي ستضطر في المستقبل إلى الإنفاق عليهم في التعليم والرعاية الصحية والإسكان، وأنهم سيبقون في مصر.
وهناك قدر كبير من عدم اليقين بشأن متى ستسمح إسرائيل لسكان غزة بالعودة بعد أن يتم إيواؤهم في مصر، وما الذي سيتبقى لهم عندما يعودون إلى غزة.
ويثار هذا السؤال وسط سابقة تاريخية لواشنطن في الأردن ولبنان، اللذين استقبلا مئات الآلاف من فلسطين في الأربعينيات ومن سورية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وأصبح اللاجئون قضية سياسية مؤلمة في لبنان.
وسيحتاج بلينكن إلى إقناع المسؤولين المصريين بأن الدول الأخرى ستكون على استعداد لدفع التكاليف وربما حتى إيواء اللاجئين.
وعلى كل الافتراضات الغربية، فإن الحكومة المصرية سترفض تماماً العرض الأميركي الذي ربما يضع النظام الحاكم في مصر أمام أزمة حقيقية.
وتوجد في مصر معارضة شعبية قوية للفظائع التي ترتكبها القوات الإسرائيلية في قطاع غزة، كما أن العديد من مواطني مصر باتوا يشعرون بأن السلام مع إسرائيل لم يحقق لهم عوائد مادية، بل بالعكس كان خصماً على مستقبل مصر ومركزها العربي والعالمي.
يذكر أن مصر انضمت خلال العام الجاري إلى منتدي بريكس، وحصلت في السابق على قروض كبيرة من الصين ضمن مشروعات "الحزام والطريق"، وربما ستتمكن من الحصول على مزيد من التمويلات من بكين.