محاولة حكومية لاحتكار الأرز المصري

02 يناير 2023
الأرز اختفى من الأسواق بالرغم من استمرار موسم الحصاد (Getty)
+ الخط -

احتدمت أزمة الأرز في مصر وارتفعت الأسعار إلى ضعفي ما كانت عليه قبل الأزمة، واختفى من الأسواق بالرغم من استمرار موسم الحصاد، الذي كان يسمح بوفرة السلعة في الأسواق وبأسعار منخفضة للغاية.

وفشلت الحكومة في توفيره في منظومة السلع التموينية بكميات كافية وبسعر اقتصادي، رغم أنه سلعة أساسية لكل الأسر المصرية، الغنية والفقيرة، فخفضت مقررات البطاقة التي تخص 4 أفراد من 8 كيلوغرامات إلى كيلوغرام واحد فقط. وأجبرت المواطن على إنفاق قيمة الدعم التمويني في شراء سلع هامشية مثل الملح والخل والبسكويت بدلاً من الأرز الذي اختفى من البقالات التموينية. 

وبدلاً من الاعتراف بالأزمة وتحديد أسبابها بموضوعية وعلاجها بمصداقية، نفى مجلس الوزراء وجود أزمة أو عجز في الكميات المعروضة من الأرز بالأسواق والمنافذ التموينية، واعتبرها إشاعة لا تستند إلى أي حقائق، غرضها إثارة غضب المواطنين.

وأكد المركز الإعلامي لمجلس الوزراء على توافر الأرز، مع انتظام ضخ كميات وفيرة منه يومياً بجميع الأسواق والمنافذ التموينية بكافة محافظات الجمهورية، بسعر 10.5 جنيهات للكيلو بالمجمعات الاستهلاكية والمنافذ التموينية، وبسعر 12 إلى 15 جنيهاً في السوق الحرة.

وادعى وجود مخزون استراتيجي من الأرز يكفي الاستهلاك المحلي لمدة عام. واتهم البيان التجار بالتلاعب بالأسعار وبالممارسات الاحتكارية، وأن مباحث التموين تشن حملات تفتيش دورية لمنعها.

في بداية موسم حصاد الأرز في شهر أغسطس الماضي، أصدر وزير التموين والتجارة الداخلية المصرية القرار رقم 109 لسنة 2022 ويقضي بإجبار مزارعي الأرز على توريد واحد طن من المحصول عن كل فدان لحساب هيئة السلع التموينية، بسعر 6600 جنيه للطن من الأرز رفيع الحبة، و6850 جنيهاً للطن عريض الحبة.

ونص القرار على عقاب الفلاح الممتنع عن التسليم الإجباري للكمية المحددة بحرمانه من زراعة الأرز في العام التالي، وعدم صرف الأسمدة والمبيدات الزراعية المدعمة لكافة أنواع الزراعات ولمدة عام، وتحتسب قيمة الأرز غير المسلم بمبلغ عشرة آلاف جنيه لكل طن يلتزم بسدادها كل من يمتنع عن تسليم الكميات المحددة.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

ولمحاصرة الفلاح واحتكار سلعته وإجباره على البيع للحكومة، نص قرار الوزير على أن الهيئة العامة للسلع التموينية فقط هي المختصة بشراء محصول الأرز المنتج محلياً موسم 2022، من خلال شركة مضارب، تقشير، الأرز التابعة للشركة القابضة للصناعات الغذائية، والشركة القابضة للصوامع والتخزين، والبنك الزراعي المصري.

وحظرت الحكومة على الشركات والمضارب الخاصة، والتي يعمل بها 25 ألف عامل، شراء الأرز من الفلاحين، ومنعتها من القيام بضرب الأرز ومصادرة أي كميات يجري توريدها لغير مضارب ومخازن الحكومة. ورغم ادعاء الوزير أن السعر عادل ومربح للفلاح، أقبل المستهلكون على شراء الأرز من الفلاح بسعر وصل إلى 10 آلاف جنيه للطن.

وتأكيداً لمحاولة الحكومة احتكار سوق الأرز والتربح من الفلاح ومن المواطن في نفس الوقت، أصدر مجلس الوزراء القرار رقم 66 لسنة 2022 في شهر سبتمبر الماضي ليحدد سعر الأرز الذي تبيعه وزارة التموين لمحلات البقالة والسوبر ماركت بـ15 جنيهاً للكيلوغرام المعبأ، وبـ12 جنيهاً للكيلوغرام غير المعبأ.

وبعد خصم تكلفة تقشير الأرز، تتربح الحكومة أكثر من ثمن الأرز الشعير الذي اشترته من الفلاح. ما يعني أن السعر الذي تفرضه الحكومة لشراء الأرز من الفلاحين هو نصف السعر السوقي الذي تبيع به الأرز للمستهلكين. 

شراء الحكومة الأرز من المزارعين بسعر بخس هو استغلال وتربح حكومي على حساب الفلاح. كذلك فإن بيع الحكومة الأرز بعد ضربه في مضارب الدولة للتجار والمواطنين بضعف السعر الذي اشترت به من الفلاح، هو احتكار حكومي لسوق الأرز وتربح على حساب المواطنين المصريين واتجار بأقوات الناس.

أما بيع الحكومة الأرز في منظومة السلع التموينية بزيادة 3 آلاف جنيه عن تكلفة الشراء من الفلاح وبعد خصم تكلفة التعبئة، مع تقليل الحصة من 2 كيلو للمواطن إلى رُبع كيلو فقط لإجبار المستفيدين من الدعم، وعددهم 64 مليون مواطن في حكم الفقراء، على شراء احتياجاتهم من السوق الحر، هو تربح غير أخلاقي ومصّ لدماء الغلابة.

ومع بداية موسم الحصاد، امتنع معظم الفلاحين عن بيع المحصول للحكومة، وأقبل المواطن على شراء الأرز من الفلاح بسعر 10 آلاف جنيه للطن، وفشلت سياسة الحكومة الاحتكارية.

ودخلت في تحد وحرب جديدة مع الفلاحين ومع المواطنين أيضا. فاستغلت مرور دعوات الاحتجاج والنزول في الشوارع والتظاهر في يوم 11/11 بسلام، على عكس ما حدث في العشرين من سبتمبر سنة 2019، أصدر رئيس مجلس الوزراء في 17 نوفمبر الماضي قرار رقم 89 لسنة 2022 ويقضي بزيادة سعر بيع كيلو الأرز الأبيض، الذي تحتكره، إلى 18 جنيهاً للكيلوغرام، وإلغاء المادة الأولى من القرار رقم 66 والذي حدد سعر الأرز بـ 15 جنيهاً للكيلوغرام. 

وكأن الحكومة لم تقنع بالأرباح التي ستحققها بالقرار السابق، فأصدر مجلس الوزراء القرار لزيادتها بمعدل ثلاثة آلاف جنيه إضافية، مع تثبيت السعر المعلن للفلاح دون زيادة. ولإحكام السيطرة على السوق تماماً ووضع يدها على كل حبة أرز في طول البلاد وعرضها، وفي نفس اليوم الذي صدر فيه قرار زيادة السعر، أصدر رئيس مجلس الوزراء القرار رقم 4148 لسنة 2022، ونصت المادة الأولى منه على اعتبار سلعة الأرز من المنتجات الاستراتيجية وتدخل في تطبيـق حكم المادة 8 من قانون حماية المستهلك، ويُحظر حبسها عن التداول سواء من خلال إخفائها، أو عدم طرحها للبيع أو الامتناع عن بيعها أو بأي صورة أخرى. 

ونص القرار أيضا على أن يلتزم حائزو سلعة الأرز لغير الاستعمال الشخصي من المنتجين والموردين والموزعين والبائعين ومن في حكمهم بالمبادرة فورا إلى إخطار مديريات التموين والتجارة الداخلية المختصة على مستوى الجمهورية بنوعية وكميات الأرز المخزنة لديهم. 

ولإرهاب المزارعين والتجار وأصحاب المضارب وإجبارهم على بيع ما لديهم للحكومة بالسعر البخس، نصت المادة الثانية من القرار على معاقبة كل من يمتنع عن بيع الأرز من الفئات السابقة بالحبس مـدة لا تقل عن سنة، وغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه وحتى مليوني جنيه أو ما يعادل قيمة البضاعة موضوع الجريمة أيهما أكبر، وفى جميع الأحوال، تقضى المحكمة بالمصادرة. ولم يحدد القرار كمية الأرز المسموح بحيازتها للاستعمال الشخصي، ولم يعف كذلك المزارعين الذين باعوا جزءا من محصولهم للحكومة من العقوبة.

 ورغم أن ديباجة القرار أشارت إلى أنه صدر بعد الاطلاع على الدستور، وعلى قانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية رقم 3 لسنة 2005، وعلى قانون حماية المستهلك، لكن القرار يتعارض تماما في ظاهره وجوهره مع نص وروح الدستور الذي تنص المادة 29 منه على أن "تلتزم الدولة بشراء المحاصيل الأساسية بسعر مناسب يحقق هامش ربح للفلاح". 

وكذلك تنص المادة نفسها على أن "تلتزم الدولة بحماية الفلاح من الاستغلال". فأي سعر مناسب للأرز الذي يقل عن نصف سعر أعلاف المواشي، وأي حماية من الاستغلال إذا كانت الدولة تشتري الأرز من الفلاح بسعر 7 آلاف جنيه للطنّ، وتبيعه للمواطنين بسعر 18 ألف جنيه!

وادعى رئيس مجلس الوزراء أن القرار صدر بعد الاطلاع على قانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية وعلى قانون حماية المستهلك. لكن الدولة من خلال القرارات الأخيرة هي التي تعطل مبادئ المنافسة وتمارس الاحتكار في أبشع صورة. وهي التي تستغل المزارع والمستهلك وتتربح على حساب مصلحتهما، وتقوم بدور التاجر الذي يحاول الاستحواذ وحده على سوق الأرز وما تطوله يده من كل حبة أرز لدى المزارعين، بتحديد سعر بخس للشراء من الفلاحين، وبإلزامهم بالبيع الجبري لها ودون غيرها من التجار أو أصحاب المضارب أو المستهلكين، وبالسعر الذي تفرضه عليهم. 

حاليا، تشن مديريات التموين وقوى الأمن بمحافظات الدلتا المنتجة للأرز حملات تفتيش على مخازن التجار والمضارب وبيوت المزارعين والمستهلكين وتصادر الأرز وتفرض الغرامات المالية وتقضي بعقوبات تفوق في قسوتها جرائم الإتجار في المواد المخدرة، بحجة التداول غير الشرعي لسلعة مجهولة المصدر ودون مستندات ملكية، ثم تدعي أنها تحمي المنافسة وحقوق المستهلك وتمنع الاحتكار. هذه الإجراءات تكررت في سنوات عديدة منذ سنة 2015، ووقعت مشادات بين المزارعين والتجار وقوى الجيش والشرطة التي صادرات الأرز بنفس الحجج غير القانونية. 

وفي سنة 2018، حاولت قوة من مباحث التموين مصادرة كمية من الأرز في إحدى قرى محافظة البحيرة، وتصدى أهالي القرية وعضو مجلس النواب للقوة. فاعتدت القوة الأمنية على عضو المجلس حتى فقد الوعي، وأصابت عدداً من الأهالي بجروح خطيرة واعتقلت الباقين، ولم يتم الإفراج عنهم إلا في سنة 2021، حين حكمت المحكمة ببراءة 29 شخصاً من أهالي القرية في قضية عرفت إعلامياً بواقعة الأرز. 

المؤكد أن الحكومة تمهد لتفعيل الحل الأمني في الأزمة الحالية، كما اعتادت تفعيله في مواجهة أزمات القمح والخبز والسكر والأرز المتكررة منذ سنة 2014. ورغم كلفته السياسية وفشله في علاج الأزمات، ولكن وتيرة اللجوء إليه زادت بالتزامن مع تعيين وزير التموين الحالي ذي الخلفية العسكرية، وكادت تؤدي واحدة منها إلى احتجاجات شعبية مهددة لاستقرار النظام في بداية مارس سنة 2017. 

والمؤكد أيضاً أنّ النظام لا يجهل حلّ أزمة شح الأرز في الأسواق من خلال وضع السعر العادل الذي يشجع الفلاحين على بيع الأرز للحكومة كما تريد بدلا من السعر البخس الذي تفرضه عنوة، كما لا يجهل حلّ أزمة ارتفاع أسعار الأرز بتوفيره بكميات كافية في منظومة البطاقات التموينية التي تضبط توازن الأسعار في السوق. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي الأهداف السياسية لاستمرار أزمات الغذاء المفتعلة في مصر؟!

المساهمون