قبل نحو شهر، أنجزت شركة "آلفاريز آند مارسال" تقريرها النهائي، الذي يلخّص أبرز استنتاجات عمليّة التدقيق الجنائي الأولي في المصرف المركزي اللبناني. وبالرغم من فداحة ما كشفه التقرير في أقسامه الـ 14، لم تتضح حتّى هذه اللحظة الخطوات المقبلة، التي سيتم القيام بها على مستوى السلطة القضائيّة والحكومة اللبنانية ومجلس النوّاب، للاستفادة من خلاصات التقرير المهمّة، والمضي قدماً في عمليّة المساءلة والمحاسبة في المصرف المركزي.
على المستوى القضائي، ما سمع به اللبنانيون حول مرحلة ما بعد التدقيق الجنائي الأوّلي، اقتصر على مطالعة مقتضبة جداً وضعها مدّعي عام التمييز غسان عويدات، لتلخيص مضمون التقرير، والطلب من الجهات المعنيّة "اتخاذ ما يرونه مناسباً". وبذلك، تُرك الملف رهينة تقاذف المسؤوليّات بين النيابات العامّة المختصّة، تماماً كما حصل سابقاً في الملف القضائي لحاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة.
في الحكومة اللبنانية، وبالرغم من إعداد نائب رئيس الوزراء سعادة الشامي مذكّرة طلب فيها القيام بمجموعة من الإجراءات للتوسّع في التدقيق، والبناء على مضمون التقرير، لم تتخذ الحكومة أي قرار يذهب بهذا الاتجاه. بل وعلى العكس تماماً، لم يجر إدراج أي من مطالب الشامي على جدول أعمال جلسات مجلس الوزراء للمناقشة، في تجاهل تام لواجبات الحكومة على هذا الصعيد.
أمّا في المجلس النيابي، الذي يفترض أن يلعب دوراً رقابياً وتشريعياً في ضوء نتائج التدقيق، لم تتعدّ خطوات لجنة المال والموازنة النيابيّة حتّى اللحظة حدود النقاشات العموميّة في مضمون التقرير. وبدا من الواضح أن أولويّات اللجنة ورئيسها تركّزت على تحميل الحكومات المتعاقبة مسؤوليّة التراكمات التي كشفها التقرير، مقابل إبراء ذمّة اللجنة، بدل الشروع بخطوات من شأنها الاستفادة من التقرير لتصحيح مكامن الخلل في القوانين التي ترعى عمل مصرف لبنان.
في واقع الأمر، وبعكس ما يجري اليوم، من المفترض أن يرتّب تقرير التدقيق الجنائي مجموعة من المسؤوليات على كلّ من السلطات الثلاث، التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة. فلبنان لا يمكن أن يدخل اليوم مرحلة التعافي المالي، ما لم يتمكّن من إنجاز مسار توزيع المسؤوليّات والمحاسبة، بخصوص ارتكابات الحقبة السابقة. فإعادة بناء الاقتصاد والنظام المالي على أسس سليمة، يستلزم حتماً معالجة الاختلالات البنيويّة والإداريّة، التي أدّت إلى الانهيار المالي والنقدي.
فعلى سبيل المثال، كشف التقرير مجموعة من المعطيات الجديدة، التي تتصل بالملفّات التي تحقق فيها المحاكم اللبنانية والأوروبيّة، بخصوص شبهات الاختلاس وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع، التي تحوم حول حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة وشركائه. وهذا تحديداً ما يفرض على القضاء اللبناني ضم هذه المعطيات الجديدة إلى ملفّات التحقيق القائمة أساساً، بهدف الاستفادة منها، وربط المعلومات الجديدة بتلك الموجودة أساساً.
فتقرير التدقيق الجنائي أكّد أنّ عمولات شركة فوري التي سددها مصرف لبنان، والمشتبه بكونها ستاراً لعمليّات اختلاس قام بها سلامة وشقيقه، لا يمكن اعتبارها فعلياً "أموال من خارج ميزانيّة مصرف لبنان"، كما يحاجج فريق الدفاع القانوني عن سلامة. بل وعلى العكس تماماً، وجد تقرير التدقيق الجنائي أن آليّة تحويل هذه الأموال إلى حساب منفصل داخل ميزانيّة المصرف، قبل تحويلها إلى شركة "فوري"، يجعل من هذه العمولات أموالاً عموميّة بكل ما للكلمة من معنى. وهذا ما يفترض أن يأخذه القضاء بعين الاعتبار عند استكمال التحقيق في الملف.
أمّا الأهم، فهو أنّ التدقيق عثر على تحويلات غامضة أخرى بقيمة تناهز 111 مليون دولار، من الحساب نفسه في المصرف، وهو ما بدا كاستكمال لسلسلة العمليّات المشبوهة نفسها التي يجري التحقيق بشأنها الآن. مع الإشارة إلى أنّ المصرف المركزي رفض خلال عمليّة التدقيق الإفصاح عن ماهيّة هذه التحويلات، بينما فشلت شركة التدقيق في العثور على أي خدمات تبرّر تسديد هذه المبالغ. وجميع هذه الخلاصات، من المفترض أن تُضم إلى التحقيقات القضائيّة القائمة، والمتعلّقة بتحويلات حاكم مصرف لبنان وشركائه.
وفي الوقت نفسه، أشار التقرير إلى جملة من الشبهات الأخرى المرتبطة بإدارة أموال المصارف، المودعة في مصرف لبنان، مثل انتقال صافي احتياطات المصرف المركزي من تسجيل فائض بقيمة 7.2 مليارات دولار، إلى تسجيل عجز بقيمة 50.7 مليار دولار، خلال السنوات الخمس الممتدة بين 2015 و2020.
وهذا ما يعني أنّ المصرف بدّد خلال هذه المدّة القصيرة نحو 57.9 مليار دولار من أموال المودعين الموجودة بحوزته، أي ما يتجاوز الـ 2.8 مرّة حجم الناتج المحلّي الحالي. وهذه التطوّرات، كانت تتزامن مع إجراء "الهندسات الماليّة"، التي ضخّت أرباحاً كبيرة لحساب أصحاب المصارف، بكلفة مرتفعة على مصرف لبنان، قدّرها التقرير بنحو 115 تريليون ليرة لبنانيّة.
بمعنى آخر، يشير التقرير هنا إلى ما وصفه تقرير البنك الدولي سابقاً بنموذج "البونزي"، أي النموذج الاحتيالي الذي جرى على حساب أموال المودعين، التي وضعتها المصارف لدى المصرف المركزي. ولفهم نمط العمليّات المشبوه هذا، من المفترض أن تكوّن النيابة العامّة التمييزيّة ملف تحقيق مركزي جديداً، بالاستعانة بمن يلزم من خبراء المحاسبة والمال، تمهيداً للادعاء على المسؤولين عن أحد أكبر الانهيارات المصرفية التي شهدها التاريخ الحديث.
على مستوى مجلس الوزراء، من المفترض أن تسعى السلطة التنفيذيّة إلى التعاقد مع شركة "آلفاريز آند مرسال" مجدداً، لاستكمال التدقيق الذي لم يُنجز على أتم صورة، بسبب امتناع حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة عن إعطاء المعلومات المطلوبة. فكما أوضحت الشركة نفسها في التقرير، فإنه لم يُسمح لها بالحصول على أجوبة خطيّة إلا من 14 موظفاً، من أصل 47 موظفاً وجهت لهم الأسئلة. كما لم يزوّد مصرف لبنان المدققين بأسماء المستفيدين من التحويلات، ولا بأسباب إجراء كل تحويل، ولا حتّى بطبيعة التحويلات التي جرت من حساباته.
أمّا اليوم، وبعدما غادر سلامة منصبه، وبعدما أكّد حاكم مصرف لبنان بالإنابة، وسيم منصوري، استعداده لتقديم كل هذه المعلومات، بات بإمكان الحكومة أن تطلب من شركة التدقيق استكمال مهمّتها.
كما أصبح بإمكان مجلس الوزراء تكليف مجموعة من الخبراء المستقلّين، بالتوسّع في دراسة الشبهات التي وجدتها الشركة، واستكمال البحث في حجم الخسائر المتراكمة في ميزانيّة مصرف لبنان، وأسبابها والمسؤولين عنها. وجميع هذه الحقائق، يفترض أن تكون جزءاً من المعطيات التي سيقوم عليها مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي.
أمّا المجلس النيابي، فينبغي أن يقوم بورشة تشريعيّة ضخمة، لتعديل القوانين الناظمة لمصرف لبنان والقطاع المصرفي، ومعالجة مكامن الخلل التي أشار إليها تقرير التدقيق الجنائي، في هيكليّة المصرف وتوزّع الصلاحيّات فيه. ومن هذه الاختلالات مثلاً، عدم وجود إدارة متخصّصة بالرقابة الداخليّة على عمليّات المصرف، وعدم وجود مديريّة متخصّصة بإدارة المخاطر، بالإضافة إلى حجم الصلاحيّات الضخم وغير المقيّد المُعطى لحاكم المصرف المركزي وحده.
في خلاصة الأمر، لا يمكن للنظام المالي أن يستعيد ثقة المودعين في المستقبل، حتّى لو جرت معالجة فجوة الخسائر المتراكمة في القطاع المصرفي، إذا جرى تكريس مبدأ الإفلات من العقاب، وتجاوز الارتكابات التي حصلت في الماضي. فالتغاضي عن استكمال مسار التدقيق، وتجاهل ضرورة المساءلة والمحاسبة، لن يعني سوى تطبيع الممارسات التي أفضت إلى تبديد أموال المودعين، ما سيعيد إنتاج الأزمة في المستقبل مجدداً.