كل ما أعرفه أنّ الفنان والموسيقار محمد عبد الوهاب قد غنّى أبياتاً من قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي، (16 أكتوبر 1868 - 14 أكتوبر 1932)، "يا ناعماً رقدت جفونه" على مقام البياتي الموسيقي، أكثر المقامات استخداماً في الموسيقى الشرقية.
وقبل وفاة أحمد شوقي في عام 1932، كنا ونحن في المدرسة نبحث، أنا وأشقائي، عن أبيات شعر لنسأل بعضنا بعضاً عن معنى كلمة، أو إعراب أخرى، أو سرعة التعرّف على البحر الذي كتبت القصيدة على وزنه وتفعيلته.
والعجيب أنَّ هذه القصيدة كتبت على الوزن نفسه الذي صاغ فيه ابن الرومي، (شاعر من شعراء القرن الثالث الهجري في العصر العباسي)، قصيدته الهجائية الشهيرة والخفيفة: "وجهك يا عمرو فيه طول/ وفي وجوه الكلاب طول"... والتفعيلة هي "مستفعلن فاعلن فعولن/ مستفعلن فاعلن فعولن"، وهي أحد تحويرات بحر الكامل".
وفي قصيدة " يا ناعماً" بيت شعر يقول: "ما العمر إلا ليلة/ كان الصباح لها جبينه".
السؤال كان ما معنى كلمة "جبين"؟، ولماذا هي مرفوعة بالضمّة.
أما الجواب فهو في إعادة كتابة البيت، لِنُزيل عنه ضروراته الشعرية، فيصبح نثراً كما يلي: "ما العمر إلا ليلة/ كان جبينها هو الصباح".
وكلمة جبين تعني هنا القبر، ومنها ما يقوله الأشقاء في مصر عن المقبرة أنها "الجَبّانة". وبذلك يصبح معنى البيت "ليس العمر إلا ليلة واحدة يأتي الصباح، فيصبح بدوره نهايتها وقبراً لها".
تبادل المعلومات
تذكّرت هذا كله، وأنا أرى أمي تُودَّع في اللَّحد الذي هُيئ لها. وكنت أتذكّرها، وهي قوية متحرّكة، ترعى ثمانية أطفال، وتلحّ علينا أن نكون مبدعين متفوقين. وقد طَلَبتْ من والدي أن يشتري لنا مقعداً طويلاً فوقه ست خزائن للكتب.
وكنا نحن الستة الذين في المدرسة آنذاك نجلس عليه معاً لندرس. وإذا صَعُبَ أمْرٌ على أحدنا، سأل الذي هو أكبر منه، وإن عجز عن الإجابة، ذهب إلى الذي بعده، وبعدما ننتهي من الدراسة نجلس لكي نتبادل المعلومات، ونسأل بعضنا أسئلة عن أشياء تعلمناها.
وقد علمتنا الوالدة رحمها الله، كوثر العناني، أن نقرأ خارج المنهاج، حيث كانت تقول: "إذا حصرتم معرفتكم في كتب المنهاج، فما الذي سيميزكم عن الآخرين؟ ولسوف تكونون مملّين تردّدون ما يعرفه غيركم. أما إن أتيتم بجديد، فإن الطلبة الآخرين لن يملّوا من حديثكم". وهكذا شجعتنا على القراءة.
كان والدي رحمه الله، أحمد العناني، أستاذاً متميزاً في تدريس مادة اللغة الإنكليزية، ولكنه كان من المتقنين لغته العربية وآدابها، ومن الباحثين المرموقين في التاريخ. وقد كان يطلب مِنّا أن نقرأ ثلاثين كتاباً في عطلة الصيف، نصفها باللغة العربية، والنصف الآخر باللغة الإنكليزية.
وهكذا تعلمنا في الصغر، وحفظنا بحور الشعر قبل أن ننهي السنوات الأولى من الابتدائية. ولمّا أنهيت مرحلة الثانوية العامة بتفوق، رفض والدي أن أدرس اللغة الإنكليزية في الجامعة الأميركية في العاصمة اللبنانية بيروت، حين مُنحت بعثة إليها، وقال لي: "مهنة التعليم مضنية. ادرس شيئاً تكسب منه رزقاً، ثم تدرس الإنكليزية والأدب على مهلك ولتشبع هوايتك".
تخصص الاقتصاد
درست الهندسة في الولايات المتحدة سنتين، ولمّا أخذت مساقات الاقتصاد غيّرت تخصصي إليه، حباً فيه وللرياضيات التي أعشقها، خصوصاً أنها، في ذلك الوقت، قد أصبحت جزءاً أساسياً من علم الاقتصاد. والآن، وقد انقضت فترة العزاء بوالدتي، رجعت إلى نفسي لأثير سؤالين: من علمني أكثر حينما كان العلم كالنقش في الحجر: التعليم المدرسي على مقاعد الصف، أم التعليم المنزلي على المقعد الذي صمّمته أمي، رحمها الله، في المنزل؟
لا شك أنّ كليهما كان مفيداً، ولكن الذي صقل الشخصية أكثر هو التبادل المعرفي مع أشقائي ووالدي، والقراءة الخارجية التي منحتني تنوّعاً في المعرفة، وعمقاً في فهم ما كنا نُلَقّنُهُ في المدرسة. والسؤال الثاني هو المتعلق بالمقايضة عبر الزمن؟
وهل ندرك نحن أن أهم رصيد لنا هو "العمر المحدود"، ولا بد من استثماره بأفضل الوسائل لتحقيق ما نصبو إليه ونسعى إلى إنجازه؟ وكيف نجعل البحث عن المعرفة والمهارة أمراً مشوّقاً ومحبباً، فلا نجهد في ممارسته؟
العملية التربوية لا تُستكمل في المدرسة، وبخاصة في المدارس الحكومية، لأن الأساتذة يُدرِسون بلا روح في حالاتٍ كثيرة.
وراتب الأستاذ في معظم أقطار الوطن العربي يقلّ عن أجر العامل غير الفني؟ وهكذا ضاعت مكانة الأستاذ داخل الصف وبين صفوف المجتمع، فانهارت النظم التعليمية بانهيار القدرات التعليمية والتَّعَلُّمية.
المعرفة الإضافية
وكذلك لا بد أن نغذّي روح الاستغراب والفضول لدى الطلاب، لكي يستمتعوا بالمعرفة الإضافية، وبالمهارات الأدائية والحرفية والتواصلية. يتحدث معظم الطلبة إلى بطونهم، ولا تكاد تفقه ما يقولونه بسبب سوء المعرفة اللغوية والقدرة التعبيرية واختلاط اللغتين العربية والأجنبية. متى يتعلم طلبتنا أن العمر ليلة واحدة تأتي وتروح كلمح البصر، وأن الإشراق الصباحي الذي تغنّي له الفنانة الكبيرة أم كلثوم "يا صباح الخير يلّي معانا"، قد أفنى ليلة من العمر وقبرها في ثناياه.
ما العمر إلا ليلة، فماذا فعلنا بها؟ وما مصير أولادنا إذا ماتت أمهاتنا الصالحات، أو أصبحن عملة نادرة؟
إصلاح التعليم لم يعد حكراً على الوزارات القطاعية، ولكنه أصبح تَرْتيبةً اجتماعية تتضافر فيها مؤسسة المنزل مع مؤسّسة المدرسة مع مؤسسة الثقافة مع الجهد المعرفي في كل مكان.