ما الذي يحرّك الجماهير؟

06 يوليو 2023
باريس عاشت أيام عصيبة خلال الاضطرابات (Getty)
+ الخط -

وقفت أمام شاشة التلفاز مسمّراً، وأنا أراقب جُموع الشباب الفرنسي تحرق وتسرق، وتدمر وتعبّر بأقسى الوسائل عن يأسها وخيبة أملها في النظام الفرنسي وتجاهله عن قصد أو غير قصد لحالهم. وكما يقولون لنا في علم المنطق. "النار لا تحصل إلا بتوفر شرطين: الأول شرط ضروري، وهو وجود غاز الأكسجين. والشرط الثاني الكافي هو وجود مصدر يُشعل تلك النار". والشرطان ضروريان أن يكونا معاً.

والأكسجين في حالة فرنسا هو الشعور العارم بالظلم، خاصة بين الشباب المنحدرين من أصول غير فرنسية، والتي كانت بلدانهم الأصلية في معظمها مستعمرات سابقة لفرنسا، فهم إما من شمال أفريقيا أو غربها، أو جزر البحر الكاريبي، أو من لبنان. ولأن كون جِلْد معظم هؤلاء من اللون غير الأبيض (البني بجميع ظلاله)، فلذلك صاروا هدفاً واضحاً لكل عنصري أو يميني متطرف، سواء أكان أستاذ جامعة، أو صاحب عمل، أو زميل عمل، أو منافساً رياضياً.

أما إذا زاد على ذلك بأن يكون مُسلماً، فهو معرض أكثر من غيره للأذى والتمييز، ولو أضفنا عدد المسلمين في فرنسا وعدد الملونين لربما شكّلوا ما يقارب من 7 إلى 8% من سكانها.

فرنسا ميّزت ضد الكاتب الشهير "اليكساندر دوما"، كاتب روايات الفرسان الثلاثة. وكونت دي مونت كريستو، والرجل صاحب القناع الحديدي، وهو أيضاً والد اليكساندر دوما الابن كاتب روايتي "الزنبقة السوداء" و"غادة الكاميليا" المأساة الرومانسية. وكلاهما كان أفريقي اللون والتقاطيع، وأحسن لاعبي كرة قدم فرنسيين مثل كيليان مبابي، و"دوساييه" وحتى "أُنري" لم ينجوا من الهجمات اللسانية العنصرية عليهم داخل فرنسا وخارجها.

إذا كان الناجحون اللامعون يتعرّضون للأذى والتهكّم العنصري، فمن الذي سينجو منها؟ فما بالك مثلاً بآلاف الشبان الذين يسرقون وجودهم في أزقة المدن الفرنسية، ويعتاشون على التعامل داخل السوق غير الرسمية، وأعينهم على سيارات البوليس، حتى لا تكتشفهم. أليس من المرشح أن يكون من بين هؤلاء فتى يافعاً لكي يقتله ضابط بوليس من أصحاب الرقاب الحمر في وسط الشارع العام؟

وقد حصلت قصة مشابهة في تونس عام 2010 لشاب اسمه محمد البوعزيزي، جاء بعدها طوفان ما سمي بالربيع العربي. وهللت أوروبا والغرب له. والآن حصل الشيء نفسه لشاب فرنسي من أصول جزائرية، والذي تسميه الصحافة "ناهل م" (Nahel M) والذي قُتل في مدينة صغيرة قرب ضواحي باريس، والفتى يعمل سائقاً على سيارة "ديليفري" للمواد الغذائية، وقتل عن قرب برصاصة (أو رصاصات) في صدره.

التمييز العنصري هو الشرط الضروري للغليان والهيجان وهو الأكسجين، أما الشرط الكافي هو قتل هذا الشاب من قبل البوليس. وحرك القتل مشاعر الغضب البركاني لدى من يشعرون بالظلم، فهاجوا وماجوا على كل ما يمثل البرجوازية التي تستغلهم وتحتقر إنسانيتهم.
وبالعودة إلى الوراء قليلاً، فإننا لا نزال نتذكر ما جرى في فرنسا من احتجاجات طويلة مستمرة، عندما أعلنت الحكومة الفرنسية، وبتأييد صارم من الرئيس إيمانويل ماكرون، رفع سن التقاعد للمشمولين بالتأمينات الاجتماعية، من سن الثانية والستين إلى الرابعة والستين.

وقد أتى هذا القرار حسب ظني وبصفتي مَنْ بَنى وأشرف على مؤسسة الضمان الاجتماعي بالأردن، بدعم من الراحل الملك الحسين، وكبار المسؤولين أمثال د. عبد الرؤوف الروابدة ود. عبد الله النسور، وبدعم معنوي من الراحل عصام العجلوني، وبإشراف من الأمير الحسن بن طلال، ومعارضة كثيرين. بصفتي كذلك فإنني أقول إن رفع سن التقاعد مبرر مالياً وأكتوارياً واجتماعياً. ولكن المشكلة أن العمال الذين قاربوا سن التقاعد، والمظلومين رأوا في هذا الأمر فرصة للتظاهر، وكثير من هؤلاء كانوا فرنسيين من أصول غير فرنسية.

ومن منا لم يفجع مع فرنسا حين احترقت كنيسة "نوتردام" الشهيرة في قلب باريس، والعلامة الفارقة فيها. ولذلك أبدى المسلمون واليهود والمسيحيون من كل الطوائف أسفهم على معلم حضاري. وكان على فرنسا أن تتعظ. ولكنها هي فرنسا صاحبة شعار "الحرية والمساواة والمؤاخاة" منذ ثورتها عام 1789، وهي تبدي سلوكيات مخالفة لذلك، فهي تحت الادعاء بأنها دولة علمانية لا تسمح بلبس الحجاب في المؤسسات العامة، بما في ذلك المدارس والجامعات، ولكنها باسم الحرية تؤيد قرار القضاء السويدي بحرق القرآن الكريم.

والغريب أن غالبية الفكر الأفلاطوني الداعي للديمقراطية والمساواة واحترام حقوق الإنسان قد وجدت ترجمة سياسية لها على أيدي كثير من الكتاب الفرنسيين أمثال "فولتير"، و"جان جاك روسو"، ومونتسكيو، وحديثاً على يد الفلاسفة الوجوديين العلمانيين أمثال "جان بول سارتر"، و"ألبير كامو"، و"جان جينيه"، و"سيمون دي بوفوار"، وغيرهم. ولكن هذا لم يمنعهم من أن يكونوا أكثر شعوب الأرض عنصرية ومعاناة من عارض زينوفوبيا "الخوف من الغرباء".

ولنزيد الموضوع حدة، فإن الفقر في فرنسا هو من أسوأ الأنواع في العالم بسبب ارتفاع كلفته. وتقدر الإحصاءات الفرنسية أن معدل دخل الفرد في فرنسا يبلغ حوالي 41 ألف دولار سنوياً، بينما يقدر الدخل الوسيط حوالي 61 ألف دولار سنوياً، وهو الدخل الذي يقسم الناس إلى 50% فوقه و50% دونه. وبمعنى آخر فإن حوالي 40% من سكان فرنسا يعيشون على دخل يقل عن متوسط دخل الفرد. والأمر الثاني هو أن مقياس عدم عدالة توزيع الدخل (معامل جيني) يعطي فرنسا درجة عالية، وهي (68%). علماً أن الرقم يتراوح بين صفر (لا عدالة على الإطلاق) إلى 100، وهو المساواة الكاملة، أي إن كل الأفراد يأخذون الراتب نفسه. ولكن اللافت أن عدداً كبيراً من الذين لا يتمتعون بدخل مناسب هم من المهاجرين وغير البيض.

ولعل من العجب أحياناً أن الأقليات الملونة في دول أوروبا كلها تجد منها من حقق نجاحاً، ولكنه يتصرف، كما يقول الأميركيون من أصول أفريقية، مثل "أنكل توم"، إشارة إلى القصة الشهيرة عن أنكل توم الطيب الذي يعيش بسلام مع أسياده البيض، والذين لا يترددون في التنكيل به. وترى منهم من ينتمي إلى الأحزاب المحافظة واليمينية، لينفض عن نفسه هوية الاختلاف، وأنه في أعماقه مدافع عن وطنه البديل. ويحصل أمر كهذا في فرنسا وإنجلترا وكندا وأستراليا والولايات المتحدة.

ولكن هذا لا يقلل من حجم المعاناة التي يعاني منها أبناء بلدهم الفقراء داخل تلك الدول. ويأتي بعد ذلك كله الكاتب الفرنسي الذي سبق أن أشرت إلى كتابه أكثر من مرة هنا، واسمه توماس بكيتي T. Picketty صاحب كتاب "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، والذي أعاد نشره ملخصاً عام 2011 بعنوان "اقتصاديات اللامساواة". وقد أثار الكتاب ردات فعل واسعة، عندما قال إن الثورة الصناعية الرابعة قد وسعت الهوة بين عوائد رأس المال وعوائد العمل، وأن النمو الاقتصادي الذي حصل في الصين والهند قد وسّع الهوة بين الفقراء والأغنياء في الثروة.

وقد حصل بعد الثورة الصناعية الأولى تطور غريب، حين أحدثت تلك الثورة في القرن الممتد بين (1750-1850) تركزاً هائلاً في الثروة وخلخلة في البنى الاجتماعية والاقتصادية، جعلت من الصناعيين أغنياء بلا حدود، ولكنها زادت العمال فقراً، بسبب تراجع معدل الأجور، وارتفاع تكاليف الحياة. وكان لا بد من أن تتحدى أفكار جديدة ما نادى به آدم سميث والكلاسيكيون. وكانت حركة العمال وبروز النقابات العمالية، وما صاحب ذلك من عنف اجتماعي هي الرد على تلك الفجوة.

وبحسب بيكيتي، فإن القطاعين الرئيسيين اللذين تسببا في وصول توزيع الثروة حالياً إلى أسوأ حالاته منذ فجر التاريخ، هما قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وثانيهما قطاع العقار والأراضي. وقد حوّل هذان القطاعان كثيراً من المستثمرين فيهما إلى درجات من الغنى لم يشهدها التاريخ. وإذا أدخلنا إلى ذلك ثورة الطاقة الجديدة المخزنة، والذكاء الاصطناعي، فلربما يزداد توزيع الثروة في العالم سوءاً على سوء.

ومن يضمن أن هذه التطورات ستلاقي رضاً وقبولاً من الأكثرية الكاسحة التي تعيش على الهامش، مضحية بكرامتها وعيشها الكريم لصالح الأقلية المدللة؟ وحتى بارتفاع الأجور لأصحاب الكفاءات في العالم، فإن ما يأخذونه يبقى فتاتاً إذا ما قورن بالأرباح الهائلة التي يجنيها أصحاب الأعمال المستخدمون هذه الكفاءات المجددة والمبدعة. إذن فالمنطق التحليلي للأمور يقول إن العالم الآن يمور بالفقر ومشكلاته، وبالعنصرية، وبعودة العنصرية بوجهها القبيح على العالم.

والعالم العربي الذي تسعى الدول الغنية فيه لأن تواكب موجة التجديد والتطوير، عليه أن يدرك أن التنمية بدون وجه إنساني مرشحة إلى أن تخلق "وحش فرانكنشتاين" الذي سيجعل من الأكثرية المعدمة وحوشاً كاسرة، ومن الأقلية المرفهة أناساً أثرياء خائفين. أعتقد أنه آن الأوان لكي يساهم العرب في وضع مشروع نظام اقتصادي عالمي جديد بوجه إنساني، وإلا فإن المردود سيكون حروباً متزايدة، وصراعات طبقية، وثورات تحطيم وغضب، حتى يحين الوقت لخلق نظام وحشي بديل عن الرأسمالية، يودي بما حققه البشر من إنجازات عظيمة، وهي حرب عظمى.

الكلام عن القنابل النووية لم يعد سراً، واستخدام الأسلحة الفتاكة في الحروب لم يعد مفاجئاً. بل صار الكلام في الأسلحة النووية التكتيكية (Tactical Atonic bombs)، والقنبلة القذرة (Dirty bombs) وغيرها من مفردات مفزعة، حديثاً عادياً. العالم ليس بحاجة إلى ثروتنا فحسب، بل بحاجة إلى حضارتنا المستهدفة، والتي لا يوجد عنها بديل حالياً لإنقاذ العالم.

المساهمون