خلال جائحة كورونا استغل البعض في أوروبا أزمة الهلع التي سادت القارة مع ربيع 2020 فنشأت سريعاً طبقة طفيلية سعت إلى التربح السريع من خلال التلاعب بخوف المواطنين في أكثر من بلد على مستوى مستلزمات الصحة والنظافة والتعاقد الوهمي لتزويد تجار تجزئة بما يحتاجونه.
وفي ذروة الهلع أيضاً سجّلت كاميرات مراقبة في مدن مختلفة، بما فيها الاسكندنافية، عمليات سطو على المعقمات التي تنتشر عادة في حمامات المشافي والعيادات لبيعها بعشرة أضعاف سعر السوق، عدا التنافس على بعض المواد الاستهلاكية بعد أزمة سلاسل التوريد العالمية.
وشكلت تلك الأزمة أيضاً فرصة لعصابات المافيا الإيطالية والأوروبية للدخول على خطوط الذعر من أجل جني الأموال والتربح السريع. اليوم، في 2022، ومع التضخم وارتفاع الأسعار، تواجه بلدان أوروبية مختلفة بعض ما واجهته مع ذعر الجائحة، فهناك احتيال متزايد وسرقات لجيوب المواطنين، بحجة تأمين وقود التدفئة وغيرها من السلع، بالإضافة إلى ظاهرة ازدياد سرقات المتاجر حتى في الدول الأكثر ثراءً وتحضراً.
فعلى مستوى استغلال كثيرين للأزمات الخانقة التي تصيب مستهلكي أوروبا، وبشكل خاص معدلات التضخم وارتفاع فواتير الحياة، بات هناك لدى البعض ميل أكثر إلى عمليات الاحتيال. على سبيل المثال، بعد أزمة زيت الطهي، بعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، أراد البعض استيراد هذا الزيت من خارج منطقة اليورو، ومن خلال "وسطاء تجاريين".
في واحدة من الحالات التي تابعتها "العربي الجديد" قام التاجر من أصول فلسطينية، لبيب، في الدنمارك، بتحويل نحو 35 ألف دولار بعد "اكتمال أوراق الشحن"، انتظر وصول الشحنة الأولى من زيت الطعام لتزويد المتاجر، لكن ما جرى هو اختفاء "الوسيطين التجاريين" بالأموال التي سرقوها من جيبه وجيوب الكثيرين مثله في ألمانيا وبلجيكا وغيرهما في أوروبا.
السرقات في المتاجر
في نفس الاتجاه، جلب ارتفاع فواتير الكهرباء والغاز والمواد الأساسية على الأسر الأوروبية حالات جرأة غير مسبوقة من سرقات المتاجر، التي سجلت ارتفاعات بلغت في المتوسط 35% في الشمال الأوروبي. وتوضح المسروقات المسجلة العلاقة بين ارتفاع الأسعار وتلك الممارسات، إذ شملت اللحوم ومواد غذائية مختلفة وفاخرة.
التقارير في السويد والدنمارك توضح أنه بالفعل ارتفعت نسبة سرقة المتاجر خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة بنسبة 25% مقارنة بالأشهر الأولى من العام الحالي، وذلك استناداً إلى تقارير الشرطة في البلدين.
واحد من مديري التوزيع في سلسلة متاجر "بروسن" الدنماركية، يسبر هانسن، أوضح في تصريحات للقناة الثانية في التلفزيون الدنماركي أخيراً، أن توسع السرقات يشعره بالاستياء "لأن البعض يقوم بالسرقة للتربح وليس لسد جوع أسرته". ذلك مرده إلى أن حالات السرقات تشمل أفخر أنواع اللحوم، التي اختارت بالفعل بعض المتاجر وضعها في صناديق زجاجية بأقفال داخل الثلاجات التي تعرضها.
ومنذ انتهاء فصل الصيف تلاحظ مؤسسة "سالينغ غروب" (التي تملك متاجر كبيرة) أن السرقات بقصد بيعها في السوق الموازي "الأسود" باتت تخسر بعض متاجرها المضطرة لتوظيف المزيد من المراقبين وتوسيع ساعات ملاحقة الزبائن المزعجين.
لحم البقر المتن الفاخر والأجبان مرتفعة الثمن إلى جانب الخمور وملحقات الحلاقة (بسبب ارتفاع سعرها)، وغيرها كثير، باتت هدفاً للصوص، وفقاً للتقارير المحلية من سلاسل المتاجر، ليس فقط لسد حاجة اللص إليها، بل لبيعها بنحو نصف السعر في السوق السوداء بهدف التربح باللعب على الحالة النفسية للمستهلكين واختلال موازين تكلفة معيشتهم.
أسواق وهمية للحطب
وطاول الاحتيال أحد أهم ما يواجه به الأوروبيون الشتاء، إذ انتشر البيع الوهمي للحطب في بعض البلدان على غرار ألمانيا، التي تقدم الكثير من الأسر على استخدامه للتدفئة بدلاً من الكهرباء والغاز. فقد انتبه المتلاعبون والمحتالون مبكراً إلى أزمة الاحتياج، مثلما فعلوا في زمن وباء كورونا، فراحوا يعتمدون على الثقة الاجتماعية التي عادة ما تنتشر في دول الشمال الأوروبي خصوصاً.
فحتى قبيل انفجار خطي الغاز الروسي الذي يصل إلى أوروبا "نوردستريم 1 و2" عبر بحر البلطيق في سبتمبر/ أيلول الماضي ارتفعت الشكاوى من تفنن اللصوص المحترفين في سرقة ما يخزن من حطب في بيوت الناس، إذ يدرسون بعناية الأماكن التي ليس فيها كاميرات مراقبة، بل إن السرقات توسعت لتشمل وقود التدفئة المخزن.
وتبلغ شركات التأمين في الدول الاسكندنافية وألمانيا ودول البلطيق عن تنامي ظاهرة سرقة الخشب والحطب والوقود بصورة متزايدة خلال الشهر الماضي وحتى منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. ولعل اللافت والقاسم المشترك الأكبر بين أغلب الدول الأوروبية، خصوصاً التي يكون فيها فصل الشتاء قاسياً، أن استهداف اللصوص لهذا النوع من السرقات يتوسع هذه الأيام ليشمل الغابات الخاصة والعامة.
ففي أغلب غابات أوروبا تقوم البلديات (السلطات المحلية) بقطع الأشجار لاستخدامها لصناعة مقاعد عامة واستراحات على الطرقات والمجمعات السكنية وملاعب الأطفال وغيرها لخدمة دافعي الضرائب. فمن فنلندا شمالاً إلى إيطاليا جنوباً تقطع الأشجار وتخزن في الغابات نفسها، إما للبيع محلياً أو للتصدير لإنتاج كرات الحطب. وفي كلا الحالتين لم يفرق اللصوص بين أنواع الخشب، فتوسعت الظاهرة إلى الحد الذي استدعى في الأيام الماضية تدخل السلطات الألمانية، على سبيل المثال، بتحذيرات للمواطنين من شراء المسروقات.
سرقات ضخمة ليست من عمل هواة
ومثل تلك السرقات الضخمة ليست من عمل هواة، بحسب ما يصدر عن السلطات وشركات التأمين في أكثر من دولة أوروبية. وتأتي تلك التطورات السلبية للسلطات والشرطة بعد أن أصبح الحطب أيضاً "نادراً" بفعل رفع أسعاره، وقيام بعض مورديه بتخزينه انتظاراً للمزيد من رفع أسعاره.
ووفق دراسة نشرها لارس هوغورد أندرسن؛ الأستاذ الباحث في علوم الجريمة في كوبنهاغن، فإن "ارتفاع أسعار المواد الغذائية والأساسية بات يغري لارتكاب السرقات والاحتيال". وسجلت سلطات برلين تزايداً لقطع الأشجار الصغيرة من قبل مواطنين يحضرون بمقطوراتهم ومناشيرهم، محملين إياها "دونما اكتراث إلى ملاك تلك الغابات".
وفي السياق قال مدير مكتب الغابات الإقليمي في مونستر، أدالبرت كوخ، في تصريحات لمحطة "إيه آر دي" التلفزيونية الألمانية قبل أيام، إنه في الفترة الأخيرة باتت السرقات من هذا النوع "أكثر شيوعاً، ويستغرق التقطيع والتحميل نحو 20 دقيقة فقط".
ومن ناحيتها ذكرت الشركة الحكومية للغابات والأخشاب في شمال الراين أنه "جرى الإبلاغ عن سرقة أخشاب بشكل احترافي، حيث يقوم الأشخاص بسرقة حمولات شاحنة كاملة". ونقلت الصحف الألمانية المحلية عن رئيس قسم شمال الراين في المكتب الحكومي للغابات، جيرو هوت فون إيسن، قوله إن من يقومون بهذه السرقات "هم أناس وضيعون جداً، فالسرقة وقطع الأخشاب ليست جريمة بسيطة، فهي مكلفة لغرامات باهظة وفي حالات أخرى السجن".
الأغرب في تلك السرقات إعادة تدويرها بالاحتيال على المواطنين. فبعض الخشب لا يصلح للتدفئة، ويجري من خلال شبكة الإنترنت إقناع المستهلك الأوروبي بأنه يقوم بـ"صفقة جيدة" لشراء الحطب من خلال وسطاء يطلبون تحويل دفعة أولى من أجل إرسال الطلبيات. بعضهم وصل إليه شيء لا علاقة له بالتدفئة، بينما آخرون وقعوا فريسة جشع سرقة جيوب أناس يعانون بالفعل لتأمين عائلاتهم خلال موسم الشتاء.
النصب والاحتيال ليسا بالضرورة أن يكونا محليين، إذ بحسب ما تنشره وسائل الإعلام الألمانية وفي دول الشمال باتا "عابرين للحدود". فإلى جانب التعدي على الأملاك الخاصة والعامة في الغابات المحلية، يقطعون الأشجار باحترافية لتعبئتها في أكياس شبيهة بالمستخدمة للحطب.
وسجلت السلطات في مختلف الدول وجود شبكات تعمل على شبكات الإنترنت للإيقاع بالمستهلكين من خلال إعلانات عن وجود ما يسمى "كرات" وقود خشبي لتشغيل المدافئ، وبأسعار مغرية، إذ وقع كثيرون ضحايا وعود إرسال الطلبيات من بولندا، وغيرها من دول الجوار لألمانيا واسكندنافيا، ليتبين لهم بعد دفع أموال أولية للحجز، وبعضهم دفع على الأقل ألفي يورو، اختفاء "الوسطاء التجاريين".
ازدهار الاحتيال
وقامت السلطات أيضاً بالتحذير من أن الأسواق الأوروبية تشهد "ازدهاراً" في الاحتيال القادم بشكل مكثف من دول شرق أوروبا، التي تعتمد في التدفئة أكثر على الخشب ومكوناته في صناعة الحطب الكروي المضغوط.
من ناحية أخرى بدأت سلطات برلين تحذر من عمليات احتيال إلكتروني على المواطنين بتلقيهم اتصالات ورسائل تطالب بعض الفئات بإدخال معلوماتهم الشخصية والبنكية بحجة أنهم موظفون من أجل تحويل الأموال التي خصصتها الحكومة الفيدرالية الألمانية كحزم مساعدات للتغلب على غلاء الأسعار والوقود.
ويقع البعض، وخصوصاً كبار السن والمتقاعدين الذين قررت حكومة أولاف شولتز تخصيص أكثر من 60 مليار يورو لدعمهم لمرة واحدة، ضحية هذا النوع من الاحتيال الجديد، إذ أبلغ بعضهم وبثقة بـ"الموظف المحتال" عن معلوماتهم البنكية والرقم السري، لتجرى سرقة الأموال من خلال العالم المظلم في الشبكة العنكبوتية.