مؤتمر "كأن" الاقتصادي

26 أكتوبر 2022
الرئيس عبد الفتاح السيسي يفاقم أزمات الاقتصاد المصري (Getty)
+ الخط -

بفكر المَدْرَسة التي تنتظر زيارة مفتشين من وزارة التعليم، سارع النظام المصري بالدعوة لحوار وطني، دعا إليه أهله وعشيرته، ومن هرول للدخول في حظيرته، ممن هاجروا في مرحلة سابقة هرباً من بطشه، وأفرج عن عشرات المعتقلين، من إجمالي عدد مقدر بعشرات الآلاف منهم، ثم تبقت عدة أيام قبل موعد حضور المفتشين، فـ"حشر" فيها مجموعة من المسؤولين والإعلاميين، وأطلق عليه اسم "المؤتمر الاقتصادي".

المفتشون هم مسؤولو ما يقرب من مئتي دولة، يشاركون في مؤتمر المناخ COP27 الذي سيعقد في شرم الشيخ، اعتباراً من السابع من الشهر القادم.

ومع السمعة السيئة في مجال حقوق الإنسان، والتي تطارده من حين لآخر في مختلف بلدان العالم، عمد النظام المصري إلى محاولة تجميل صورته، كما تفعل المدارس التي تنتظر المفتشين.

ولأن هذه المدارس لا تكون معنية بإجراء تحسين حقيقي لأدائها، لم تُقَدِّم في عشر سنوات ما قدمته في شهرين سبقا حضور المفتشين، لا لمصلحة "الطلاب"، وإنما لتجنب لوم الزائرين، وربما أملاً في الحصول على مكافأة بعد انتهاء التفتيش. ومع غياب حسن النية، بدا الأمر كله "كأنه حقيقي"، ولكنه لم يفلح في إقناع أحد بجديته.

قبل ما يقرب من شهرين من موعد التفتيش، قرر "ناظر المدرسة" إقامة حوار بين مجموعة من مؤيديه، و"كأنه" حوار وطني، و"كأنهم" يمثلون أطياف سياسية متباينة، و"كأنه" نظام ديمقراطي، يسمح بالمعارضة، ويتقبل الرأي الآخر، ويستمع إلى الآراء المخالفة، لعله يجد فيها ما ينفع.

ثم شرع النظام بعد ذلك في الإفراج عن بعض المعتقلين، و"كأنه" نظام عادل، يفرج عن المسجونين ظلماً، ولا يتهاون مع المجرمين، رغم أن أشهر قرارات عفوه السابقة كانت عن بلطجية وقتلة وفاسدين، بينما بقي في سجونه عشرات الآلاف من المظلومين والمعتقلين بلا ذنب حقيقي إلا معارضته، وأيضاً ممن لم تصدر بخصوصهم أحكام نهائية لأكثر من عامين، على خلاف دستوره الذي عدله بمعرفة رجاله.

ثم جاء بعد ذلك ما أطلق عليه النظام "المؤتمر الاقتصادي"، الذي أُعلن عنه على عجل، ورُوِّج له "كأنه" مؤتمر اقتصادي عالمي، يُدعى كبار رجال الاقتصاد، من دول العالم كافة، لحضوره، قبل أن ينتهي به الأمر مؤتمراً محلياً يشارك فيه رجال الحكومة، مع بعض الإعلاميين المؤيدين، كما يحدث، أو كما يمكن أن يحدث، طوال العام، وفي أي وقت.

وجهوا الدعوة إلى الاقتصادي المصري الأميركي الشهير محمد العريان، و"كأنهم" يستعينون بالخبرات المصرية المشهود لها بالنجاح في الخارج، ثم طلبوا منه ألا يتحدث عن الاقتصاد المصري، وأن يقصر حديثه على الاقتصاد العالمي، ليخرج وزير قطاع الأعمال السابق هشام توفيق مستنكراً الموقف، ومشبهاً إياهم، على صفحته على فيسبوك، بمن استعان بخبير، ثم طلب منه الحديث عن الحي، لا عن المنزل.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

وجهوا الدعوات على عجل، و"كأنهم" يرغبون في الإصلاح فعلاً، أو "كأنهم" لا يعرفون أين الخلل، أو "كأن" الحل غائب عنهم، فكانت الدعوات لثلة من الموالين، وقليل من المتخصصين. فلما وصل المدعوون من الطائفتين، قالوا لهم "ممنوع التحدث عن الاقتصاد المصري"، إلا لمن يؤذن له، وإن أُذن له، فلا يتحدث إلا في ما يُملى عليه.

تحدث رئيس الوزراء عن تاريخ أزمات مصر الاقتصادية منذ عقود، و"كأنه" يحاول أن يقنعنا أن الأزمات علينا هي المكتوب، وأن زيادة أعدادنا هي السبب في ما وصلنا إليه، و"كأن" دول مجموعة BRIC، ويقصد بها البرازيل وروسيا والهند والصين، لم يكن لديها زيادة سكانية وهي تحقق معدلات النمو الكبيرة التي وصلت إليها مطلع الألفية الحالية.

أعلن القائم بأعمال محافظ البنك المركزي حسن عبد الله عن توجه جديد لعمل مؤشر لقياس قوة العملة المصرية، مبتعداً بها عن الدولار الذي قال إنه لا حاجة لنا بقياس قوة الجنيه المصري مقارنةً به، كوننا دولة غير مصدرة للنفط، كما أن الولايات المتحدة ليست شريكنا التجاري الأكبر، و"كأن" تغيير أداة القياس يمكن أن يزيد من قوة العملة المصرية، أو يسدد ما يقرب من 157 مليار دولار من الديون الخارجية (الرقم أعلى بكثير في نهاية الشهر الحالي)، أو يقلل من الضغوط التضخمية التي أقر بأنها ناتجة في أغلبها عن ارتفاع فاتورة الواردات.

يحاول البنك المركزي توصيل رسالة تقول إن بقية عملات العالم قد ضعفت أيضاً أمام الدولار، وإن بعضها ضعف أكثر من الجنيه، وهو محق في ذلك. هو يريد أن يقول إن الجنيه المصري ضعف بالفعل أمام الدولار، إلا أنه ثبت تقريباً أمام اليورو والإسترليني وعملات أخرى، وقوي أمام الليرة التركية، و"كأن" رسوب ابني في الامتحان يكون مقبولاً لو رسب طلابٌ آخرون، أو "كأن" وجود الفاشلين يبرر فشلنا.

ووسط كل هذه الـ"كأنّات"، لم أسمع حديثاً جاداً عن سياسات تسمح بإنقاذ الاقتصاد الحقيقي، بما يقلص العجز في الميزان التجاري، والحساب الجاري، وميزان المدفوعات، والموازنة، قبل اللجوء إلى البنك المركزي لإخراجنا من الأزمة، أو لتوفير الدولارات المطلوبة لسد هذه العجوزات.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

لم يثلج صدري في كل ما سمعت مما جرى يومي الأحد والإثنين، للأمانة، إلا جملة واحدة قالها محافظ البنك المركزي، وهي وصفهُ للتضخم في مصر بأنه "ناتج عن جانب العرض، لا عن جانب الطلب"، أي أن ارتفاع تكلفة الاستيراد، بعد ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه، هو الذي تسبب فيه، لا كثرة المعروض من النقود في السوق المصرية، وهو ما يعني أن رفع الفائدة لن يقضي على التضخم، وأن استقرار سعر الجنيه مقابل الدولار وحده سيكون كفيلاً بالنزول بمعدل التضخم، الذي يعد الأعلى في مصر فيما يقرب من أربع سنوات، إلى مستوياته المقبولة.

لا أعرف إن كان المحافظ يقصد أم لا، ولكنه بكل بساطة أوضح لنا حجم التكلفة التي تحملناها خلال ما يقرب من سبع سنوات، فضلنا فيها أهل الثقة على أهل الخبرة.

المساهمون