عمدت البنوك المركزية حول العالم إلى رفع معدلات الفائدة لمواجهة التصاعد المستمر لمعدلات التضخم التي زادت اشتعالا بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، ورغم الرفع المتوالي للفائدة في معظم البنوك المركزية للاقتصادات الكبرى حول العالم إلا أن معدلات التضخم لم يتوقف تصاعدها، وهو الأمر الذي شكك في جدوى استخدام هذه السياسة وربما شكك في نجاعة كل أدوات السياسة النقدية الأخرى في كبح موجة التضخم الحالية.
وبعيداً عن الجدل الدائر حول تأخر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في الإقدام على رفع سعر الفائدة، بعد الحفاظ عليها قريبة من الصفر لعام 2021 بالكامل وحتى مارس الماضي عندما قرر زيادتها ربعاً في المائة تلتها زيادة أخرى في مطلع مايو نصفاً في المائة، وصفت بكونها أكبر زيادة في أسعار الفائدة الأميركية منذ أكثر من عقدين، ورغم الزيادة إلا أن البيانات الواردة من الولايات المتحدة وباقي البلدان الأوروبية تشير بوضوح إلى استمرار تصاعد التضخم وعدم جدوى السياسات النقدية المتبعة حتى الآن.
صعود غير مسبوق
سجلت معدلات التضخم في سائر أنحاء العالم ارتفاعات قياسية، فعلى سبيل المثال سجل في الولايات المتحدة تصاعد مستمر خلال الفترة الماضية حتى وصل أعلى مستوى له منذ 40 عاما، حيث ارتفعت أسعار السلع بنسبة 8.5% في الأشهر الاثني عشر المنتهية في مارس/آذار الماضي، وهي أكبر زيادة سنوية منذ ديسمبر/كانون الأول عام 1981.
كما أظهرت إحصاءات مكتب الإحصاء الوطني البريطاني، أن معدل التضخم في بريطانيا ارتفع لأعلى مستوى منذ 30 عاما خلال شهر مارس/آذار الماضي، حتى قبل ارتفاع فواتير الطاقة، حيث ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين إلى 7% خلال عام حتى مارس الماضي، مقارنة بنحو 2. 6% في فبراير/شباط الماضي.
كذلك سجلت أستراليا أعلى معدل تضخم سنوي لها منذ أكثر من 20 عاما، حيث ارتفع مؤشر أسعار المستهلك، الذي يقيس تكاليف المعيشة، بنسبة 2.1% خلال الربع المنتهي في مارس و5.1% في الـ 12 شهرا المنتهية في مارس 2022، وفقا للبيانات التي نشرها مكتب الإحصاء الأسترالي.
وبمراجعة كافة البيانات الإحصائية الصادرة عن الاقتصادات الكبرى حول العالم سنجد مستويات قياسية للتضخم، ولكن معدل التضخم الأعلى عالميا سجلته تركيا حينما وصل 70% في شهر إبريل الماضي، كما سجلت الأرجنتين معدل تضخم بلغ 40%، ولم تفلت أي دولة حول العالم من هذا الارتفاع الكبير في معدلات التضخم رغم استخدام البنوك المركزية لأدواتها النقدية وهو الأمر الذي يشير بوضوح إلى أسباب أخرى بخلاف زيادة السيولة التي تستهدف معدلات الفائدة المرتفعة سحبها نحو الودائع المصرفية.
أسباب ارتفاع معدلات التضخم
تعددت الأسباب التي تؤجج معدلات التضخم حتى أضحى وباء تشكو أعراضه كل شعوب الأرض، وكانت البداية من تلال الأموال التي ضختها البنوك المركزية لمواجهة تداعيات انتشار فيروس كورونا، والتي شكلت تزايدا محموما في الطلب العالمي في فترة ما بعد الإغلاق وبداية التعافي، وتكامل ذلك مع التسابق نحو التعافي بتسريع وتيرة النشاط الاقتصادي من دول العالم المختلفة، مما شكل شحنا آخر للطلب لم تتمكن الآلة الإنتاجية العالمية من الاستجابة له فكانت إرهاصات ارتفاع معدلات التضخم.
وما لبثت أسعار النفط أن ترتفع في ظل تعافي النشاط الاقتصادي، وتبعها ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والفحم، ما زاد من إجمالي تكاليف الإنتاج والنقل، في نفس الوقت الذي بدأت فيه حرب الشاحنات وأزمة الحاويات التي ترتب عليها قفزات غير مسبوقة في أسعار الشحن متأثرة بأزمات سلاسل التوريد العالمية.
ثم جاءت الحرب الروسية على أوكرانيا لتضيف استمرارا لكل العوامل السابقة، حيث استمرت أسعار المحروقات في التصاعد حيث ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي إلى أكثر من 9 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية وهو أعلى مستوى منذ أغسطس/ آب 2008 بسبب الحرب، وهو الأمر الذي يعود إلى النمو الضئيل للإنتاج، والصادرات العالية من الغاز الطبيعي المسال، ومستويات التخزين التي تقل بنحو 17% عن متوسط الخمس سنوات السابقة.
كما استمر ارتفاع أسعار الفحم الذي اضطرت الدول الأوروبية إلى الاعتماد عليه كبديل للغاز الروسي، حيث سجلت أسعار الفحم في الولايات المتحدة أعلى مستوى لها منذ 13 عاماً متجاوزاً مستوى 100 دولار للطن وسط اضطراب أسواق الطاقة العالمية.
كما خلفت الحرب أزمة حادة في كميات وأسعار السلع الغذائية والزيوت النباتية كنتيجة لاضطرابات الإمدادات الروسية والأوكرانية أحد كبار المنتجين في العالم، وهو الأمر الذي دفع بقية الدول المنتجة إلى حظر تصدير الحبوب لتوفير احتياجات مواطنيها في ظل أزمة يتوقع الخبراء ليس فقط استمرارها، بل تفاقمها خلال الفترة القادمة.
الحكومات والأزمة الراهنة
من الواضح أن أزمة التضخم الحالية لا تعود إلى جانب الطلب الذي يمكن تخفيضه من خلال رفع معدل الفائدة، ومن الواضح كذلك أن معظم أسباب الأزمة مستوردة من الخارج، مما يعني ببساطة عدم قدرة الحكومات على التحكم فيها ولو بخفض نسب بسيطة من التضخم، ويشير ذلك إلى أن إجراءات البنوك المركزية بخفض سعر الفائدة ما هي إلا إجراءات نظرية إلى حد كبير، والدليل أنها لم تفلح حتى الآن في خفض التضخم ولو نسبيا، بل على العكس ربما تؤدي هذه الإجراءات مع تزايد رفع معدلات الفائدة إلى آثار عكسية على النشاط الاقتصادي.
تحذر المؤسسات الدولية حاليا من أخطار الركود الاقتصادي والذي يعني تراجع الناتج المحلي والأنشطة الاقتصادية بشكل يؤدي إلى تراجع المبيعات وتسريح الموظفين وتراجع القدرات الشرائية للناس، وهو ما يعني أن النمو العالمي مقبل على الانخفاض، وأن العديد من الاقتصادات ستدخل في خضم تلك المعاناة، وإن كان ذلك في أوقات مختلفة اعتمادا على العقبات التي تواجهها.
ولا شك أن هذه الظروف العالمية وعدم جدوى السياسات النقدية في علاجها تستلزم تدخلا عاجلا من الحكومات المختلفة لمساندة مواطنيها لا سيما الفئات المهمشة والفقيرة، وذلك على الأقل من خلال توفير السلع الغذائية الضرورية بأسعار مدعمة لمن لا يقدر على الأسعار السوقية، كما يجب على الحكومات كذلك إعداد خطط وبرامج للتعامل مع هذه الحالة ليست كحالة طارئة ومؤقتة، بل على كونها حالة ستستمر ربما إلى النصف الثاني من العام القادم وربما أكثر.
كما أنه من واجب الحكومات كذلك إعادة ترتيب أولويات إنفاقها والتوجه نحو الإحلال محل الواردات لا سيما للسلع الغذائية الرئيسية، حيث بات من الواضح تآكل أوضاع العولمة وانحسار ما كانت توفره من مميزات، وأن حالة الانكفاء على الذات وعلى أحسن حال الانكفاء على الإقليم هي الحالة المرجح حدوثها خلال الفترة القادمة.
لن تجدي السياسات الاقتصادية المعتادة في مواجهة أزمة ممتدة ذات مظاهر مستجدة، وستشكل المبادرة والاعتماد على الابتكار والإبداع في السياسات دروعا واقية ليس للحكومات فقط، وإنما أيضا للشعوب من السقوط في فخ مظاهر متعددة لأزمة ستمتد ربما لأكثر من سنة قادمة، وسيكون دور الحكومات هو الرافعة الرئيسية للشعوب لكي تتخطى هذه الأزمة بأقل الأضرار الممكنة.