أكثر ما يسيء المواطن العربي الغيور، وبخاصة الفلسطيني، تحويل قضيته من مفهوم حق وعدالة إلى مفهوم مادي صرف. وأن الضغط عليه، أي المواطن العربي، في قوته وطعامه وتهويته في أيام القيظ ستضطرّه أن يقبل بإسرائيل دولة غاصبة محتلة وغير ملتزمة بالمواثيق والاتفاقات.
منذ أن دمّر مبنى المركز التجاري وبرجاه العالميان في نيويورك يوم 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001، والإدارات الأميركية المتعاقبة تعتدي على الوطن العربي.
لقد وجدوا في ذلك العمل الإرهابي ضالتهم ليبرّروا الإنفاق الكبير الذي يوجّه لحماية أميركا وصناعة الأسلحة فيها، بعدما تبين أنها كانت سور الصين الذي كلف الصينيين سنوات وأموالاً ورجالاً، ولكنه كان قد اختُرق بسبب خيانة حارس صيني فتح الباب للغزاة ثلاث مرات، ليجعل من كل ذلك الاستثمار فيلاً أبيض. كانوا شبّاناً بطائرات مدنية، وتمكّنوا من اختراق الحدود الإلكترونية والرادارات وأشعة الليزر، وتمكّنوا من تدمير البرجين في نيويورك رمز الرأسمالية، ومن ضرب مبنى البنتاغون حيث وزارة الدفاع الأميركية، ولولا الحظ، لضربت طائرة رابعة البيت الأبيض.
وقبل الحرب بين حزب الله اللبناني وإسرائيل عام 2006 كانت إسرائيل تفتخر بصناعة الدبابة "ميركافا"، والتي قدر سعرها بخمسة وثلاثين مليون دولار آنذاك. ولكن الوصول إلى الدبابة في أثناء مرورها على حفرة اختبأ فيها مقاتل جريء أدّت إلى نسف تلك الدبابة بقنبلة تلصق في بطنها، ولا تزيد قيمة القنبلة عن بضعة آلاف دولار. وقد دمّر حزب الله أكثر من مائة دبابة في تلك الحرب.
في حروب إسرائيل ضد حركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزة في الأعوام 2009/2007، وحرب 2012، وحرب 2014، وأخيراً حرب 2021… كل هذه الحروب ادّعت إسرائيل أنها أنجزت الغايات المحدّدة لها. ولكن الواقع أن تكرارها يدحض هذا الادّعاء، وأن إسرائيل تصبّ جام غضبها على الأطفال والنساء، كما تعودنا منها، ولكنها خسرت كرامتها. وفي معركة عام 2008/ 2009 خسرت أكثر من 35 دبابة.
لا يوجد شيء يحول دون الإرادة البشرية إذا استفاقت من غفوتها وغادرت أماكن راحتها لتقاتل. وقد تعجب أن مشوشاً إلكترونياً (Jammer) بكلفة زهيده، وبصناعة يدوية من جهاز إلكتروني منزلي، يقدر بيد شخص ذكي وماهر أن يعطّل الإرسال الاستكشافي الإلكتروني لطائرة نفاثة بكلفة 250-300 مليون دولار.
زيارة الرؤساء الأميركان المنطقة، وبخاصة زيارة الرئيس جو بايدن أخيراً، والمنتهية بجدة يوم 16 يوليو/ تموز الجاري، قد أعطت إسرائيل الكثير، وسعت إلى تحقيق الأكثر. فقد تأمل الرئيس أن يحقق للإسرائيليين انتصاراً سياسياً بإغراء المملكة العربية السعودية للتطبيع مع إسرائيل. وكذلك منحهم مساعدات عسكرية عالية التقنية ودروعاً للوقاية من صواريخ "حماس". ولكن هل ستكون هذه حصناً منيعاً وقبة عصية الاختراق من الصواريخ والطائرات المسيّرة؟
وقد جاءت خطابات الرؤساء العرب خلال قمة جدة إجمالاً واضحة التوجّه، من حيث تقييم كل دولة موقفها في ضوء مصالحها الاستراتيجية ومواقفها المبدئية، وقارنت ذلك الموقف، بعدئذ، بما تتوقع أن يطلبه منها الرئيس الأميركي الزائر جو بايدن.
لا تستطيع الدولة المضيفة إرضاءً لأميركا أن تعود إلى معادلة الرئيس الأسبق، جورج بوش، الابن، حين صرّح أن الدول إما معنا أو علينا في وقتٍ كانت فيه بلده تجلس على قمة العالم وحدها عام 2003، قبل غزو العراق. لقد مُنِحَ العرب أيامها خيار الصفر.
أما الآن، فالتجمّع العربي لم يقبل بمثل تلك المعادلة. نحن مع الولايات المتحدة، ولنا معها علاقات تاريخية استراتيجية. ونحن نربح من الشراكة معها، وهي تربح أكثر. ولنا كذلك مصالح مع الصين وروسيا، ولسنا طرفاً في الحرب ضد أوكرانيا، ولذلك نريد أن تبقى علاقتنا مع الجميع قائمة ومستمرّة، ولكن على أساس الاحترام المتبادل، والمعاملة بالمثل، وقد انعكس هذا في خطاب ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وفي المقابلتين المهمتين لوزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، ووزير الدولة للشؤون الخارجية السعودي عادل الجبير.
وكذلك انطوت كلمة ملك الأردن عبد الله الثاني على تقديم واضح لا يقبل الشك للموقف العربي حيال القضية الفلسطينية، وهو إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة وقابلة للحياة على حدود الرابع من يونيو/ حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وأكد ضرورة دمج فلسطين اقتصادياً لتتكامل مع شقيقاتها العربيات. كما أنه أوضح أن الأردن قد تحمّل تبعات كثيرة من العالم، ولا بد للعالم أن يقف مع الأردن.
وأما الكلمة التي جسّدت الكرامة العربية فهي كلمة أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وقد رفض تسمية المقاومة بالإرهاب، ورفض إنكار تجسيد القادة العرب أنهم غير حسّاسين للرأي العام في بلدانهم، وأكّد على ضرورة إنهاء نظام الفصل العنصري "الأبارتايد"، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وفقاً للمبادرة العربية عام 2002.
وقد طغت مفردات هذه الخطابات الثلاثة وأفكارها على المؤتمر في بيانه الختامي. ولذلك، ذاق القادة العرب حلاوة توحيد الموقف، وأهمية التعاضد والتماسك. أما كلمات الزعماء الباقين فقد عكست تحدّيات أوطانهم مثل قضية مياه النيل في مصر، وقضية الجفاف وتشكيل الحكومة في العراق، وتمكّن أمير الكويت من توضيح موقف بلاده مما يحيط بها من تحدّيات.
الخلاصة أن الرئيس بايدن عاد أكثر قناعةً بأن الموقف العربي ليس قطعة زبدة تقطع فيها سِكّينه كيفما يشاء، وكرمه مع إسرائيل بلا حدود له أيضاً أصداء سلبية على الرأي العربي العام، ومن ثم على قدرة الزعماء على الاستجابة مع وعود بالتطبيع والاندماج الإسرائيلي من دون أن تُقدّم الأخيرة تعهداتٍ لتحسين سلوكها العنصري، وبإيقاف الاستيطان، ومصادرة الأراضي وقتل الأطفال.
نرجو أن يبني العرب على هذا الموقف، والضعف في التفاوض يجلب عليهم مطامع أكبر، واعتداءات أكثر.