استمع إلى الملخص
- ساهمت العقوبات الغربية والعربية والفساد في تعميق الأزمة الاقتصادية، مما أدى إلى عزل سوريا عن النظام المالي العالمي وتفاقم أزمة السيولة، وزاد قانون "قيصر" الأمريكي من صعوبة تنفيذ الصفقات التجارية.
- تتطلب استعادة الثقة بالليرة السورية إصلاحات جذرية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة هيكلة المؤسسات الاقتصادية، وتعزيز الإنتاج الوطني، مع ضرورة التعاون الدولي لإعادة الإعمار وجذب الاستثمارات.
لم يبدِ نظام الأسد المخلوع أدنى مسؤولية لحماية عرق جبين المواطن في سورية عندما خسر مدخراته وقيمة عمله وأوصل راتبه إلى 15 دولاراً بعدما كان 200 دولار، ولم يولِ أي أهمية لهبوط الناتج المحلي الإجمالي من حوالي 60 مليار دولار إلى حوالي عشرة مليارات دولار. ولم يتبّع أيضاً أي مدرسة اقتصادية لمعالجة أزمة الليرة السورية وهبوط قيمتها، بل استعان بالمدرسة العسكرية والأفرع الأمنية لاعتقال أي شخص يذكر كلمة دولار. أي نظام هذا الذي جعل الناس يخافون من قول كلمة "دولار"!
استبدلت مفردة دولار بكلمة "بقدونس"، كم سعر البقدونس اليوم؟ يعني كم سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار اليوم؟ فهل كان لنظام كهذا أن يطبق سياسة نقدية ومالية تساهم في معالجة أسباب أزمة الليرة واضطرابات أسواق الصرف.
مع إشراقة صباح الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، جرّب الناس قول كلمة "دولار" في مكالمات الهاتف، وصرخ بعضهم في الشوارع: دولار، ليتأكد من أنه لم يعد هناك خوف من الاعتقال!
ورثت الليرة السورية أعباءً وأزمات وسياسات مجحفة ولا تمت للحياة الاقتصادية والمالية بِصلة، لا تعكس واقع الاقتصاد المحلي وحسب، بل تعكس سياسات النظام وأتون الحرب التي أدخل البلاد فيها، والفساد، وتحويل موارد الاقتصاد وقطاعاته لخدمة الآلة العسكرية وقمع الناس. أمام هذا الواقع كيف يمكن إصلاح القيمة وتعزيز الثقة بالليرة؟
انهيارات متتالية قبل سقوط نظام الأسد
تعرّضت الليرة السورية منذ عام 2011 لسلسلة من الانهيارات المتتالية التي عكست عمق الأزمات الاقتصادية والسياسية في البلاد، حيث بدأ التراجع تدريجياً مع بداية الثورة، فقد ارتفع سعر الصرف من 50 ليرة مقابل الدولار إلى مستويات تجاوزت 35 ألف ليرة مع بداية عملية "ردع العدوان" في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024. لم يكن سبب التدهور الرئيسي هو العملية العسكرية وحسب، ولو كان كذلك لما عاد سعر الصرف إلى مستويات ما قبل العملية عند 15 ألف ليرة للدولار، بل كان نتيجة تراكمية لجملة من العوامل المتشابكة التي جعلت العملة والاقتصاد السوري أكثر هشاشة.
فقد أسفرت الحرب وخروج المدن والبلدات عن سيطرة النظام إلى خسارة موارد اقتصادية حيوية، مثل الزراعة والصناعة والسياحة والطاقة. أدى هذا إلى تقليص الإيرادات العامة بشكل كبير، ما جعل الاقتصاد يعتمد على الواردات لتلبية الاحتياجات الأساسية، وتسبب في استنزاف سريع للاحتياطي النقدي الأجنبي، وأدى إلى تفاقم الأزمة النقدية التي أصبحت واضحة مع مرور السنوات.
ولجأ مصرف سورية المركزي إلى التدخل المباشر في السوق النقدية بين عامي 2011 و2016 بهدف تثبيت سعر الصرف. لكن هذه السياسات أظهرت قصوراً واضحاً، حيث تم استنزاف الاحتياطي النقدي بشكل كامل تقريباً دون تحقيق نتائج ملموسة. ولاحقاً، تبنى المصرف سياسات تعتمد على تقليص التدخل المباشر، ولكن مع غياب أدوات نقدية فعّالة، ازدادت الفجوة بين السعر الرسمي والسوق السوداء، ما فاقم الأزمة بدلاً من حلها، وسيخرج المصرف المركزي بعد سقوط النظام ليصرّح عن احتياطي نقدي ضعيف جداً يقدّر بـ200 مليون دولار نقداً، و2.2 مليار دولار على شكل سبائك ذهبية.
وساهمت هيمنة رجال أعمال مرتبطين بالنظام على القطاعات الاقتصادية في تعميق الانهيار النقدي، كما استخدمت شركات الصرافة بدلاً من البنوك التجارية لإجراء تدخلات غير شفافة في السوق، ما أدى إلى خلق اقتصاد موازٍ خارج عن السيطرة. أسفر هذا الوضع عن تشجيع المضاربات المالية، وأصبحت مهنة المضاربة على الليرة عملاً متداولاً بين المواطنين، وهو ما أضعف الثقة بالعملة الوطنية بشكل كبير.
مع اشتداد وتيرة العقوبات الغربية على سورية، وعزل مصرف سورية المركزي عن أدواره، لجأ النظام إلى لبنان ومصارفه للدخول إلى المنظومة المالية العالمية وتنفيذ الصفقات التجارية، ولكن مع اندلاع الأزمة المالية في العام 2019 هناك، وتجميد أموال المودعين، فقد السوريون إمكانية الوصول إلى حوالي 30 مليار دولار مودعة في البنوك اللبنانية. وأدى ذلك إلى تفاقم أزمة السيولة النقدية في سورية، وأثر بشكل مباشر على قدرة النظام والمواطنين على تأمين الاحتياجات الأساسية.
ومنذ إطلاق يد الأجهزة الأمنية والعسكرية في قمع المظاهرات ضد نظام بشار الاسد، فرضت الدول العربية والغربية عقوبات صارمة على النظام، ومع اشتداد وتيرة القمع والانتهاكات الإنسانية أقرّت الولايات المتحدة قانون "قيصر" في العام 2020، الذي يفرض قيوداً مشددة على التحويلات المالية وتجارة النفط والاستثمار وإعادة الإعمار، ما أدى إلى نقص حاد في العملات الأجنبية، وأضعف قدرة النظام على تنفيذ الصفقات التجارية وإدارة الاقتصاد. كما منعت العقوبات التعاون الاقتصادي مع العديد من الدول والمؤسسات المالية، ما جعل سورية أكثر عزلة من أي وقت مضى.
حلول لاستعادة الثقة بليرة سورية
على الرغم من الأزمات والتحديات الكبيرة التي تواجه الليرة، فإن فرص استعادة الثقة بالعملة خلال الشهور القادمة ليست مستحيلة إذا تمّ تطبيق سياسات مدروسة وشاملة وإصلاحات جذرية على عدة مستويات.
لعلّ أولى الخطوات تتمثل بتحقيق الاستقرار السياسي، فلا استقرار للعملة الوطنية والاقتصاد بدون تحقيق خطوات ملموسة في الاستقرار السياسي. ويتطلب ذلك تشكيل حكومة انتقالية شاملة تعمل على إطلاق عملية سياسية جامعة يشارك فيها كل السوريين تتضمن كتابة دستور جديد، وإجراء انتخابات نزيهة. ويشكل الاعتراف الدولي بالإدارة الجديدة شرطاً أساسياً لإعادة بناء الثقة الدولية وجذب المساعدات والاستثمارات الأجنبية.
ثاني الخطوات: إجراء إصلاح هيكلي للمؤسسات الاقتصادية والنقدية، ينبغي العمل على إعادة هيكلة مصرف سورية المركزي لضمان استقلاله وشفافيته. يشمل ذلك وضع إطار عمل جديد لتحديد السياسة النقدية بعيداً عن التدخلات السياسية، وإلغاء الإجراءات التي تجرّم التعامل بالعملات الأجنبية، وتوحيد سعر الصرف في السوق، واتخاذ قرارات مبنية على أسس علمية ومهنية.
ومن ثم استعادة السيطرة على كافة مقدرات البلد تحت الأرض وفوق الأرض من نفط وغاز وزراعة وصناعة وتعزيز الإنتاج والإنتاجية، سيؤدي ذلك إلى تحسين الإيرادات الوطنية وحشد العملة الصعبة في خزائن المصرف المركزي وتقليل الاعتماد على الواردات.
أيضاً يتطلب الأمر تطبيق سياسات نقدية متوازنة، تشمل وضع سقف صارم لطباعة النقود، وربط أي عملية طباعة للنقود بالنمو الإنتاجي أو الاحتياطي النقدي الأجنبي، حيث سيقلل هذا الإجراء الضغوط التضخمية ويحسّن الثقة بالليرة.
وتعزيز الاحتياطي الأجنبي عبر جذب التحويلات المالية من المغتربين، والاستثمارات الاجنبية، وإصدار شهادات إيداع وسندات خزانة، وتفعيل أدوات ضبط السيولة النقدية من خلال رفع أو خفض أسعار الفائدة بما يتماشى مع التضخم والنمو الاقتصادي، إضافة إلى استخدام عمليات السوق المفتوحة لسحب السيولة الزائدة عند الحاجة.
كما أن الأمر يتطلب خطوات لمحاربة الفساد والمضاربة من خلال تشديد الرقابة على شركات الصرافة وتطوير أنظمة إلكترونية لمراقبة التحويلات المالية والكشف عن الأنشطة غير القانونية.
لا شك أن كل تلك الخطوات مهمة، ولكن الأهم هو إطلاق عملية متكاملة لإعادة إعمار ما دمرته الحرب، ويشمل ذلك المساعدات المباشرة، والاستثمارات المتنوعة، والقروض الميسّرة، وبرامج التعاون الإقليمية والدولية وغيرها.
أخيراً، تعكس الليرة السورية اليوم تعقيدات الأزمة الاقتصادية والسياسية في البلاد، لكنها تحمل في الوقت ذاته بوادر أمل إذا تم استغلال الفرص المتاحة بفعالية عالية. تحقيق الاستقرار السياسي، وتنفيذ إصلاحات اقتصادية ونقدية جذرية، واستعادة الثقة بالمؤسسات المالية، كلها عوامل قادرة على تحويل الليرة من رمز للانهيار إلى أداة للتعافي والازدهار.
لم يشعر السوريون قط بمبادرة "ليرتنا عزّتنا" التي أطلقها النظام لاستعادة قوة الليرة، لم يشعر أحد بضرورة مؤازرة مؤسسات الدولة لأن النظام صادرها، لكن اليوم يشعر كل السوريين بأنهم استعادوا دولتهم ومؤسساتها ومقدراتها ومواردها، وعليه لن يتوانى أحد عن مساندة الاقتصاد والعملة الوطنية التي ستمثل من الآن وصاعداً عملهم وعرق جبينهم والقيمة الحقيقية المكتنزة داخلها.