رغم أن الحظر الغربي غير المسبوق على روسيا في أعقاب غزوها أوكرانيا سبّب خسائر ضخمة لاقتصادها، إلا أن هذه الخسائر لم تصل إلى الدرجة التي تجبر موسكو على وقف الحرب، والمحصلة أن هذه العقوبات لم تحقق أهدافها، فما هي الأسباب وراء ذلك؟
صحيح أن العقوبات الغربية نجحت في عزل روسيا عن النظام المالي الغربي وسببت دماراً للاقتصاد الروسي وأربكت المصارف والأسواق الروسية، خاصة في الشهر الأول من الغزو لأوكرانيا ولكنها لم تكن كافية حتى الآن لإجبار موسكو على وقف الحرب، كما كانت تأمل القوى الغربية.
في هذا الصدد تقول الزميلة بالمعهد الفنلندي للعلاقات الدولية في هلسنكي، ماريا شاغينا، إن العقوبات الغربية أدت إلى ركود عميق للاقتصاد الروسي، وإنها عزلت النظام المالي الروسي دولياً وربما ستواجه روسيا تخلفاً في تسديد ديونها الخارجية وصعوبات مالية على الأجل الطويل.
ويعترف البنك المركزي الروسي بذلك في بياناته الصادرة في بداية الشهر الجاري التي يقول فيها غن الاقتصاد ربما سينكمش بنحو 8.8% خلال العام الجاري، وأن التضخم ربما يرتفع إلى 23%، وعلى الصعيد الاستهلاكي يعاني المواطنون الروس من صعوبات مالية وقد الحرب أربكت حياتهم اليومية، إلا أنها لم تصل إلى درجة تذمر عام في الشارع.
في المقابل فإن القوى الغربية، خاصة دول الاتحاد الأوروبي، واجهت أزمات مالية واقتصادية من العقوبات، على رأسها ارتفاع معدل التضخم وغلاء السلع الأساسية مثل المواد الغذائية والوقود والكهرباء.
وبحسب مراقبين فقد صممت العقوبات الغربية لتسديد أقوى ضربة للاقتصاد الروسي وفي زمن قصير، لكن هذا لم يحدث حتى الآن. ولذا يرى خبراء أن الفشل يعود إلى طبيعة الاقتصاد الروسي والإدارة المركزية الصارمة التي ينفذها الكرملين.
وذلك لأن مكونات هذا الاقتصاد ذات أهمية بالغة للدول الغربية، وبالتالي فإن حظرها أتى بكلفة عالية للاقتصادات الغربية التي تعتمد على السلع والمعادن والطاقة الروسية، خاصة دول أوروبا، في ذات الوقت تعرض الحظر للخروقات من قبل الشركات في آسيا التي تربحت من العقوبات.
يضاف إلى ذلك أن العقوبات الاقتصادية غالباً ما تكون فعالة وذات نتائج سريعة في الدول الصغيرة التي يمكن ضرب اقتصادها عبر عزلها من الاقتصاد العالمي والنظام المالي الغربي.
صممت العقوبات الغربية لتسديد أقوى ضربة للاقتصاد الروسي وفي زمن قصير، لكن هذا لم يحدث حتى الآن
أما بالنسبة لروسيا فهي دولة تملك اقتصاداً حجمه 1.71 تريليون دولار، حسب بيانات البنك الدولي. كما يتشكل اقتصادها من مكونات حيوية لدورة الاقتصاد العالمي، إضافة إلى أنها تحظى بدعم غير مباشر من ثاني أكبر اقتصاد في العالم وهي الصين.
ويرى خبراء أن هناك ثلاثة عوامل عرقلت نجاح العقوبات الغربية على روسيا، وهذه العوامل هي صادرات القمح والمعادن والطاقة وعدم وجود دعم كاف من دول كبرى في آسيا مثل الهند والصين والتحسن الذي طرأ على سعر صرف الروبل.
على صعيد الطاقة، يرى معهد بروغيل للدراسات الاستراتيجية في بروكسل أن العقوبات الغربية استهدفت حرمان روسيا من العملات الصعبة، ولكن الحظر الغربي للطاقة الروسية الذي نفذته جزئياً الولايات المتحدة وبريطانيا رفع من أسعار النفط والغاز الطبيعي، وبالتالي دعم بشكل غير مباشر الخزينة الروسية.
ويقول معهد بروغيل في دراسة بهذا الشأن، كان الأجدى بالنسبة للقوى الغربية فرض "تعرفة عقابية" على واردات الطاقة الروسية بدلاً من حظرها، لأن هذه التعرفة كانت ستفيد الاقتصادات الأوروبية، وتقلل في ذات الوقت من دخل روسيا من مبيعات النفط والغاز لأوروبا المقدرة بنحو 1.1 مليار دولار يومياً.
لكن يبدو أن الدول الأوروبية وقعت في الشرك الذي نصبته لها روسيا، إذ إن موسكو استهدفت شق الصف الأوروبي عبر استغلال الثغرات في هذه العقوبات، إذ لم يكن هناك اتفاق أوروبي كامل على حظر النفط الروسي حتى الآن، كما أن شركات الطاقة في أوروبا التي تستورد الغاز الروسي لم تجهز البدائل الكافية واضطر بعضها للرضوخ للطلب الروسي بتسديد أثمان الغاز بالروبل، وهو ما يعني المزيد من ابتزاز موسكو للقوى الغربية.
وعلى الرغم من أن العقوبات قللت إلى حد ما من صادرات روسيا، خاصة من النفط والغاز الطبيعي، إلا أن موسكو نجحت في إحداث اضطراب في أسواق الطاقة ورفع أسعارها بمعدلات جنونية أدت تلقائياً إلى تعويض تراجع الصادرات ودعم الخزينة الروسية من الطاقة إلى أضعاف مستوياتها قبل الحرب. وحتى الآن لم تتمكن أوروبا من حظر النفط الروسي ولكن القرار النهائي بالحظر ربما يتخذ خلال أيام وفقاً للتصريحات الرسمية الألمانية.
وحسب دراسة للدكتور والاستراتيجي الهندي الذي عمل سابقاً بجامعة هارفارد، براهما تشيلاني، فإن الدخل الروسي من مبيعات النفط والغاز الطبيعي والفحم إلى أوروبا تضاعفت في الشهرين الأولين من الغزو الروسي مقارنة بمستوياتها بالعام الماضي البالغة نحو 141 مليار دولار.
وفي ذات الشأن تقول بيانات وكالة "ستاندرد آند بوورز غلوبال" الأميركية إن العقوبات الغربية ضربت حجم صادرات النفط الروسية حتى قبل إعلان الحظر الأوروبي للنفط الروسي، إذ خفضت حجمها بنحو مليوني برميل يومياً، كما أن سعر خام الأورال الرئيسي تراجع مقارنة مع سعر خام برنت بسبب تفادي التجار شراء الخامات الروسية، خوفاً من الوقوع في الحظر الثانوي الأميركي، ولكن في المقابل فإن ذلك لم يترجم في خفض القيمة المالية التي حصلت عليها الخزينة الروسية من مبيعات النفط، بل ارتفعت كثيراً بسبب ارتفاع أسعار النفط عالمياً فوق 110 دولارات.
وتستورد دول الاتحاد الأوروبي نحو 30% من احتياجات النفط والمشتقات البترولية من روسيا.
أما على صعيد الغاز الطبيعي، فإن قرار الحكومة الروسية فرض الروبل عملة لمبيعات الغاز الطبيعي للدول غير الصديقة نصب شركاً للدول الأوروبية، حيث صممت موسكو القرار لجني مبالغ ضخمة من العملات الصعبة من مبيعات الغاز لأوروبا مقارنة بما كانت تجنيه في السابق.
ويلاحظ أن موسكو حددت سعراً مرتفعاً للروبل مقابل الدولار بعد صدور لقرار " الغاز بالروبل"، وهو ما يعني عملياً أن الشركات الأوروبية حينما تحول أثمان فاتورة الغاز من اليورو أو الدولار إلى الروبل، فإن موسكو ستحصل على مبالغ كبيرة من المبيعات مقارنة بالسعر المحدد باليورو أو الدولار في العقود القديمة.
على صعيد سعر صرف الروبل وسوق المال الروسي، يلاحظ أن العقوبات كانت مدمرة للاقتصاد الروسي في الأسابيع الأولى من الغزو، حيث خسر الروبل نسبة 50% من قيمته مقابل الدولار وانهارت البورصة في موسكو، لدرجة أن الحكومة الروسية اضطرت لإغلاق سوق المال الروسية لأكثر من أسبوع بسبب تراجع قيمة الأصول والمبيعات المكثفة للأسهم الروسية التي هددت بإفلاس العديد من الشركات الروسية.
ولكن الحكومة الروسية عادت بعد الارتباك الأوليّ ونفّذت مجموعة من الحيل النقدية مثل حيلة ربط سعر الروبل بالذهب، التي ثبت أنها غير صحيحة، كما فرضت العديد من القيود على حركة العملة الصعبة خارج روسيا، وذلك إضافة إلى تسعير الغاز بالروبل.
وساهمت هذه العوامل في تحسن صرف الروبل والحد من هروب العملات الصعبة من السوق الروسي، كما منعت مبيعات الأجانب لأصولهم وهددت بتأميمها، وبالتالي لم تتمكن العقوبات من تحقيق هدف ضرب التمويلات الروسية وإحداث تذمر في الشارع الروسي.
وعلى الرغم من أن التحسن الذي طرأ في سعر صرف الروبل يعد تحسناً مصطنعاً في جزء منه، ولكنه على أية حال عاق فعالية العقوبات الغربية التي صممت لتسديد ضربة قاضية للنظام المالي الروسي.
ويلاحظ أن الروبل الروسي لا يزال عملة منبوذة في الوقت الراهن وتتفادى المصارف الغربية التعامل بها. وحتى الآن يقتصر التعامل في الروبل على السوق الموازية في الأسواق الغربية، كما أن الحصول على الدولارات في داخل روسيا يتم في السوق الأسود أو بسعر مرتفع كثيراً عن السعر الذي يحدده البنك المركزي الروسي.
في هذا الصدد، تشير وكالة بلومبيرغ إلى أن الروبل ارتفع بنسبة 25% مقابل الدولار منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، وفقاً للبيانات التي ينشرها البنك المركزي الروسي، إلا أن سعره الفعلي في السوق الموازي أقل بنسبة 20% من السعر الرسمي.
وحتى الآن لا يستطيع المواطن الروسي الحصول على الدولارات بالسعر الرسمي للروبل، إذ إنه لا يستطيع السحب من حسابه بالعملات الصعبة إلا مبالغ لا تتجاوز 10 آلاف دولار في حال السفر، كما حظر البنك المركزي استخدام البطاقات الائتمانية في الخارج.