صعدت أسعار النفط الخام بقوة في الأسواق العالمية، متجاهلة قرارات دول كبرى السحب من مخزوناتها الاستراتيجية في تكتل منسق لكبح الأسعار والضغط على منظمة أوبك وحلفائها من كبار المنتجين من أجل زيادة الإمدادات.
ويشكك المستثمرون في فاعلية التحرك الذي تقوده الولايات المتحدة للسحب من احتياطيات النفط الاستراتيجية، لا سيما أن الكميات المقرر ضخها بالتعاون مع الدول الكبرى الأخرى، على رأسها اليابان والصين والهند، قد لا تتجاوز 120 مليون برميل، وهو ما يعادل استهلاك هذه الدول لبضعة أيام فقط، كما تنطوي الخطوة على مخاطر كبيرة، قد تضع واشنطن في مأزق أكبر، بينما تستفيد بكين ونيودلهي من تسرب الوقود الأميركي إليهما.
وجاءت القرارات المتلاحقة لأميركا واليابان والصين والهند وكوريا الجنوبية وبريطانيا، السحب من المخزون، بنتائج عكسية على مستوى الأسعار عالمياً، على الرغم من أن هذه الدول تستحوذ على أكثر من 40% من الطلب العالمي على الخام، لتتجه جميع الأنظار الآن إلى منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) وحلفائها، وفي مقدمتهم روسيا، أو التكتل المعروف باسم "أوبك+"، لمعرفة رد فعلهم تجاه التكتل المناوئ، إذ من المقرر عقد اجتماع لتحالف منتجي الخام في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول المقبل لمناقشة سياسة الإنتاج في الأشهر المقبلة.
وعلى غير ما تصبو إليه أميركا وحلفاؤها في السحب من المخزون الاستراتيجي، كسرت العقود الآجلة لخام برنت حاجز 82.4 دولاراً للبرميل، أمس الأربعاء، لتواصل مكاسبها التي سجلتها يوم الثلاثاء الماضي بنسبة 3.3% عقب صدور القرار الأميركي.
الطلب العالمي على النفط الخام يتجه للصعود إلى 96.6 مليون برميل يومياً خلال العام الجاري
كما ارتفعت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط إلى 78.7 دولاراً للبرميل، بينما كانت قد سجّلت زيادة بنسبة 2.3% في اليوم السابق.
ويوم الثلاثاء الماضي، قال البيت الأبيض إن الرئيس الأميركي جو بايدن أمر باستخدام 50 مليون برميل من احتياطي البلاد الاستراتيجي من الخام، ضمن جهد منسق مع كل من الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية وبريطانيا.
وأعلنت الهند أنها ستسحب 5 ملايين برميل من احتياطيها، فيما أعلنت بريطانيا أنها سمحت باستخدام 1.5 مليون برميل، طوعاً، من احتياطي القطاع الخاص، وأعلنت كوريا الجنوبية أنها وافقت على السحب من مخزونها، على أن تعلن حجم الكمية ومدة السحب بعد مناقشات مع الولايات المتحدة.
كما أكدت الصين، أمس الأربعاء، على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية تجاو ليجيان، أنه "نظراً إلى حاجاتها وظروفها الحالية، ستستخدم مخزونها الطبيعي من النفط الخام وستتخذ تدابير ضرورية أخرى بهدف الحفاظ على استقرار السوق"، دون أن تحدد بكين متى ستتم عمليات السحب أو الكمية التي تخطط لضخها في السوق.
وذكر رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، أمس، أيضاً أن حكومته ستسحب من احتياطيات النفط، استجابة لطلب أميركي بطريقة لا تنتهك القانون الياباني الذي لا يسمح ببيع المخزونات إلا في وجود مخاطر لتعطل الإمدادات.
وكان وزير الصناعة الياباني كويتشي هاجيودا قد قال للصحافيين في وقت سابق، أمس، إن اليابان ستسحب "بضع مئات الآلاف من الكيلولترات"، لكن لم يتم تحديد توقيت البيع. ويعادل كيلولتر واحد 6.29 براميل من النفط. بينما ذكرت صحيفة نيكاي في وقت سابق أن اليابان ستطرح بحلول نهاية العام حوالي 4.2 ملايين برميل، وهو ما يعادل يوماً أو يومين من حجم الطلب المحلي على النفط، فيما يبلغ إجمالي المخزون الوطني 490 مليون برميل تقريباً.
في المقابل يؤكد محللون في قطاع النفط ومؤسسات مالية دولية أن تأثير السحب المنسق من الاحتياطيات على الأسعار سيكون قصير الأمد على الأرجح، خاصة أن الخطوة تأتي بعد أعوام من تراجع الاستثمارات في النفط وتعافٍ عالمي قوي من جائحة فيروس كورونا.
تحالف "أوبك+" تمسك بخطته الرامية إلى زيادة الإمدادات تدريجياً بواقع 400 ألف برميل يومياً
كما قد ترتد الخطوة لتزيد مأزق الإدارة الأميركية بينما تستثمرها عواصم أخرى لصالحها، مثل بكين ونيودلهي، ما دعا نواباً أميركيين إلى إعلان تحفظهم على السحب من الاحتياطي دون أن تكون هناك تدابير تحول دون تسرب الكميات إلى الخارج.
وفي السياق يتوقع متعاملون أن يتم تصدير جزء كبير من كميات النفط التي ستطرحها الولايات المتحدة من احتياطي النفط الاستراتيجي إلى بكين ونيودلهي، وفق تقرير لوكالة بلومبيرغ الأميركية، أمس، مشيرين إلى أن الإمدادات تتألف من الخام منخفض النقاء، وهو نوع من النفط تتجنبه مصافي التكرير الأميركية، لأنه يحتوي على نسبة عالية من الكبريت، مما يجعل معالجته أكثر تكلفة، إلا أنه بالنسبة إلى بعض المشترين الأجانب، يعتبر الخام الأميركي عالي الكبريت جذاباً لأنه أرخص بكثير من خام برنت القياسي العالمي.
وتبيع الولايات المتحدة النفط بالفعل من احتياطي النفط الاستراتيجي بانتظام هذا العام، وتم تصدير حجم قياسي من تلك البراميل في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وتشتري الصين والهند بنشاط الخام الأميركي عالي الكبريت الذي يتم إنتاجه في خليج المكسيك، لذلك من السهل معرفة سبب موافقة نيودلهي وبكين على المشاركة في الاستخدام المنسق للاحتياطيات الاستراتيجية من النفط بقيادة الرئيس الأميركي، وفق بلومبيرغ.
ويتم تداول الخام الأميركي عالي الكبريت حالياً عند حوالي 75 دولاراً للبرميل، في مقابل أكثر من 82 دولاراً لخام برنت. وقال روب هاورث، كبير محللي الاستثمار لدى "يو بي إس ويلث مانجمنت"، إن تأثير السحب من المخزون الأميركي سيكون ضئيلاً على الأسعار، موضحاً في تصريحات لموقع "ماركت ووتش" الاقتصادي الأميركي، أمس، أنه رغم أن حجم الضخ الأميركي البالغ 50 مليون برميل أكبر من 35 مليون برميل كانت متوقعة على نطاق واسع، إلا أن عدم وضوح خطة تفاصيل استرجاع هذه الكميات في غضون ما يتراوح بين عام إلى ثلاثة أعوام قادمة، قلل من تأثير القرار إلى حد ما على أسعار النفط العالمية.
وأضاف هاورث: "الحقيقة هي أن التأثير سيكون متواضعاً"، مشيراً إلى أن بيانات النقل، بما في ذلك أرقام ركاب شركات الطيران، لا تزال قوية، لافتاً إلى أنه من غير المرجح أن يتراجع الطلب بشكل كبير رغم ارتفاع حالات الإصابة بكورونا وتجدد القيود في أوروبا.
ووصف روبرت يوجر، المدير التنفيذي لعقود الطاقة الآجلة في شركة ميزوهو للأوراق المالية التابعة لبنك ميزوهو الياباني، في مذكرة، وضع السوق النفطية في ظل قرارات السحب من المخزونات الاستراتيجية بأنه سيكون "متأرجحاً"، لافتاً إلى إمكانية عدم التزام الصينيين بالقرار.
وفي المرات السابقة لتحرير الاحتياطي الاستراتيجي من البترول في الولايات المتحدة، أُرسلت بعض الكميات إلى الخارج. وفي السياق، حث اثنا عشر عضواً من الديمقراطيين في الكونغرس الرئيس جو بايدن على مكافحة ارتفاع أسعار النفط والغاز ليس فقط من خلال إطلاق البراميل من الاحتياطي النفطي، ولكن عن طريق حظر صادرات النفط الأميركية، وفقاً لشبكة "سي أن أن" يوم الثلاثاء.
ويرى النواب أن السحب من الاحتياطي ليس كفيلاً وحده بحل مشكلة ارتفاع أسعار النفط والغاز، والتي أدت لزيادة التضخم إلى معدلات قياسية، إذ إن "فرض حظر على صادرات النفط الخام الأميركية سيعزز الإمدادات المحلية ويضع ضغوطاً هبوطية على الأسعار للعائلات الأميركية".
لكن بنك "غولدمان ساكس" قال في تقرير سابق له إن حظر التصدير من المحتمل أن يكون "غير مجد" وسيكون له "تأثير صعودي محتمل" على أسعار التجزئة للوقود، لأن عدم تصدير النفط الأميركي سيؤدي لرفع أسعار خام برنت بسبب قلة المعروض.
كما رأى مارك زاندي، كبير الاقتصاديين في وكالة موديز لشبكة "سي أن أن"، أن "حظر صادرات النفط لن يخفض أسعار البنزين بشكل ملموس، لأن السعر يتحدد إلى حد كبير من خلال أسعار النفط العالمية وليس سعر النفط المنتج محلياً، كما أنه من غير الواضح ما إذا كانت المصافي المحلية ستكون قادرة على معالجة نوع النفط بكفاءة". وتنطوي خطوة السحب من الاحتياطي الاستراتيجي على مخاطر، وفق بلومبيرغ، منها رد الفعل العكسي المحتمل من جانب تحالف "أوبك+" والذي يهدد بإلغاء أي تخفيف على قيود الإنتاج.
وتمسك تحالف "أوبك+" في اجتماع له في وقت سابق من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري بخطته لزيادة تدريجية لإنتاج حوالي 400 ألف برميل يومياً كل شهر، ويقاوم ضغط الأسواق العالمية لإنتاج المزيد، إذ اتفق على هذه الزيادة في يوليو/ تموز الماضي، لتستمر كل شهر حتى إبريل/ نيسان 2022 على الأقل، للتخلص تدريجياً من تخفيضات تبلغ 5.8 ملايين برميل يومياً.
ومن المتوقع أن تضع قرارات السحب من المخزونات كبار الدول المستوردة في مواجهة تحالف "أوبك+". وقال الأمين العام لمنتدى الطاقة الدولي جوزيف ماكمونيجل، الإثنين الماضي، وفق وكالة رويترز، إن "أوبك+" قد تغير خطتها لزيادة إنتاج النفط إذا باعت الدول المستهلكة احتياطيات النفط أو تفاقم جائحة فيروس كورونا. لكن الطلب العالمي على النفط الخام يتجه للصعود إلى 96.6 مليون برميل يومياً خلال العام الجاري، وحوالي 100.7 مليون برميل يومياً في 2022، مقابل 90.69 مليون برميل في 2020، و100.03 مليون برميل في 2019، وفق تقرير أوبك الشهري الصادر في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وبينما اتجهت أسعار النفط العالمية إلى الصعود رغم قرارات السحب من الاحتياطي الاستراتيجي للدول الكبرى، يزداد الموقف تأزماً في الداخل الأميركي، إذ تتحول المعركة إلى الداخل، فقد اتهم الرئيس الأميركي من جديد شركات النفط الكبرى بأنها تتحمل جزءاً من المسؤولية في مسألة ارتفاع أسعار الوقود.
وقال بايدن في البيت الأبيض، مساء الثلاثاء، إن "أسعار الوقود في سوق الجملة انخفضت بنحو 10% خلال السنوات الماضية، لكن السعر في محطات الوقود لم يتحرك فلساً واحداً"، مضيفاً "بعبارة أخرى، تدفع مجموعات التزويد بالوقود أقلّ وتربح أكثر بكثير".
واعتبرت وزيرة الطاقة الأميركية جينيفر غرانهولم أن "أسعار الوقود في المحطات مرتفعة جداً في الوقت الحالي.. لكننا سنطوي الصفحة في مطلع عام 2022".