تراجعت قيمة الليرة التركية أكثر من 7.5 في المائة يوم الأربعاء، مسجلة هزة نقدية جديدة ضربت الأسواق بشدة، معمّقة القلق من مسار سعر صرف العملة أمام الدولار خلال الفترة المقبلة. وتفاوتت التحليلات حول أسباب هذا الهبوط، خاصة مع تدفق العملة الصعبة إلى البلاد من خلال نوافذ السياحة والصادرات والاستثمارات الأجنبية المباشرة وقطاع العقارات وتحويلات المغتربين وغيرها.
بعض الاقتصاديين يعتبرون أن أنقرة تتعرض من جديد إلى استهداف غربي لاقتصادها بعد فوز رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فيما يرد آخرون الأسباب إلى أخطاء في الإدارة المالية للدولة، وبدء التغييرات في السياسة النقدية نحو العودة إلى أسس الاقتصاد التقليدي الذي دأب أردوغان على معاكسته خلال الفترة الماضية.
والتحليل الأخير شددت عليه وكالة "بلومبيرغ" في تقرير أشارت فيه إلى أن مقرضي الدولة أوقفوا الأربعاء مؤقتًا مبيعات الدولار، في إشارة إلى تخلي الإدارة الاقتصادية الجديدة عن استراتيجية التدخل المكلفة، كجزء من التحول المتوقع نحو سياسات اقتصادية أكثر تقليدية. وطلبت وزارة الخزانة والمالية، برئاسة رئيسها المعين حديثًا محمد شيمشك، من البنك المركزي التخفيف من التدخلات في سوق العملات عبر بنوك الدولة، وفقًا لمصادر "بلومبيرغ" التي طلبت عدم ذكر أسمائها. وعندما تجاوز انخفاض الليرة 6 في المائة، سمحت الخزانة باستئناف المبيعات، بحسب المصادر ذاتها.
وقد أقفلت الليرة التركية عند 21.87 أمام الدولار الثلاثاء، وهبطت إلى 23.43 الأربعاء، مسجلة أعنف هبوط في تاريخها، ووسط استمرار المخاوف زاد الإقبال على شراء العملات الأجنبية والذهب الذي سجل أعلى رقم بوصول سعر الغرام من عيار 24 قيراطاً إلى 1,463.120 ليرة تركية.
ويعتبر المحلل التركي، يوسف كاتب أوغلو أن بلاده تتعرض لـ"هجوم شرس من مصارف الاستثمار العالمية من خلال مضاربات وسحب الدولار من السوق"، في المقابل يؤكد المحلل المالي فراس شعبو أن ما يحصل "نتيجة طبيعية ومتوقعة بعد رفع يد البنك المركزي عن دعم الليرة".
يقول كاتب أوغلو لـ"العربي الجديد" إن البيانات والمؤشرات الاقتصادية "جميعها مشجعة" ولا يوجد أي مبرر لهذا التهاوي الكبير بسعر الليرة، لكنه لم ينكر فرضية تدخل المصرف المركزي عبر ضخ الدولار مباشرة بالسوق، خلال شهر مايو/ أيار الماضي الذي شهد جولتي انتخابات، مقدراً احتياطي المصرف المركزي بتركيا اليوم بنحو 119 مليار دولار، في حين بلغ نهاية الربع الأول من العام الجاري نحو 127 ملياراً.
لكن أستاذ المالية بجامعة باشاك شهير، فراس شعبو يستبعد الاستهداف الخارجي، معتبراً أن سعر الليرة بعد التراجع "هو السعر الحقيقي"، فحينما زالت آثار تدخل البنك المركزي بالأسواق وخفت دور المساعدة الخليجية الشهر الماضي، ظهر سعر الليرة الحقيقي، الذي توقعه أن يتراجع إلى 25 ليرة للدولار، "إن لم نر قرارات حاسمة من الحكومة الجديدة والفريق الاقتصادي".
ويضيف شعبو لـ"العربي الجديد" أن مصرف تركيا المركزي، وبناء على طلب الرئيس أردوغان بعدم رفع سعر الفائدة، اضطر خلال فترة الانتخابات للتدخل عبر الاحتياطي النقدي الأجنبي لضبط السعر أو تثبيته، الأمر الذي أدى، لأول مرة بتركيا، إلى نشوء سوق مواز تختلف أسعاره كثيراً عن السعر الرسمي المعلن.
وحول خروج عملات أجنبية من السوق التركية أو تحريك أموال ساخنة، يضيف شعبو أن "ذلك رأي كثر ترداده الأربعاء لكني لا أتوقعه" مرجحاً أن سبب التهاوي الكبير هو الفرصة التي وجدها المضاربون بالربح، والمخاوف التي لفّت السوق ودفعت المكتنزين بالليرة للبيع، عكس التوقعات التي نادت بشراء الليرة لأنها ستتحسن بعد نجاح أردوغان وتعيين حكومة ليبرالية مستقلة".
يتساءل مدير مركز الدراسات الاستراتيجية بإسطنبول، محمد كامل ديميريل أن "طارئاً لم يحدث، اقتصادياً أو سياسياً، فما التبرير سوى الاستهداف الخارجي؟" مشيراً إلى ارتفاع وتيرة المضاربة الأربعاء والإقبال المحموم، حسب وصفه، على شراء الدولار والعملات الأجنبية، الأمر الذي زاد المخاوف وساهم بتراجع قيمة العملة التركية.
ويضيف كامل ديميريل لـ"العربي الجديد" أن سياسة الفائدة المنخفضة لم تناسب الدول الغربية، لذا، يرى أن ما يجري من "مضاربة واستهداف" هدفه إلزام الحكومة التركية الجديدة بالنظر في رفع سعر الفائدة، خاصة أن الوزير محمد شيمشك من أنصار هذا التوجه، لامتصاص فائض السيولة من السوق التركية. لكن الاقتصادي ناصر آيدن يشير إلى أن المصرف المركزي "رفع يده عن حماية الليرة منذ الأربعاء، فرأينا الخلل بالعرض والطلب فوراً"، مشيراً لـ"العربي الجديد" إلى أن الشهر الماضي، قبل الانتخابات وخلالها، اتخذت تركيا إجراءات عدة لحماية سعر الليرة من التدهور، منها تقييدية لها علاقة بالمصارف والتجارة الخارجية ومنها تدخل مباشر من المصرف المركزي إضافة إلى تدفق أموال من دول خليجية، ولكن بعد وقف التدخلات والدعم، تكشّف السعر الحقيقي لليرة الأربعاء.
ويتوقع آيدن أن تبتعد تركيا عن الطرق السابقة بحماية الليرة وكبح المضاربة عليها سواء تقييد أو ضخ عملات أجنبية، مرجحاً التعامل بآلية اقتصادية جديدة تقوم على رفع سعر الفائدة وسحب السيولة النقدية من الأسواق لمكافحة التضخم المرتفع، ولكن "ربما يبدأ ذلك غداً أو بعد غد حين يصدر مرسوم تعيين محافظ جديد للبنك المركزي" مرجحاً استقلال القرار النقدي في تركيا، بعد تعيين المحافظ الجديد وبدء وزير المال الجديد تطبيق سياساته، ما يعني برأيه، مرحلة جديدة ستشهد هزات قبل استقرار الليرة وتخفيض نسبة التضخم التي تراجعت الشهر الماضي إلى ما دون 40 في المائة.
من جهته، يعيب المحلل التركي أوزجان أويصال على "سياسة الحكومة التركية السابقة" مخالفة السياسة الدولية في رفع سعر الفائدة، معتبراً أن خفض الفائدة ضبط سعر الليرة "قسراً ولأجل محدد" وما إن رفعت اليد وتم اعتماد آلية السوق حتى ظهر السعر الحقيقي.
ويضيف أويصال لـ"العربي الجديد" أن السوق التركية في حالة "ترقب وخوف" وإن لم تصدر الحكومة والبنك المركزي قرارات "مقنعة واقتصادية" فستستمر الليرة بالتهاوي، لأن الطلب وشره الأسواق "أكبر من قدرة المصرف المركزي على التدخل".