على الرغم مما أثاره قرار تصفية مجمع الحديد والصلب بمدينة حلوان المصرية من توتر وقلق واعتراض، لم يكن الأمر مفاجئا للكثيرين ممن تابعوا تفاصيل تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي (المزعوم) الذي "أعدته" الحكومة المصرية بإيحاء من صندوق النقد الدولي، للحصول على قرض الاثني عشر مليار دولار الذي تم الاتفاق عليه مع المؤسسة الدولية قبل ما يقرب من خمسين شهراً.
وفي حين تجنب المسؤولون المصريون على مدار الأعوام السابقة ذكر اسم الشركة العريقة، التي كانت على مدار سنوات إحدى ركائز الصناعة المصرية، ضمن الشركات المرشحة للخصخصة، كانت كل الخطوات التي تمت منذ الحصول على أول دفعة من القرض تشير إلى أن أياً من الشركات المملوكة للدولة، أو أي نوع من الأصول التي تملكها الحكومة المصرية، لن يكون بعيداً عن البيع، وما حال جزيرتي تيران وصنافير عنا ببعيد.
لا أحاول التقليل من تبعات قرار تصفية مجمع الحديد والصلب، وما يمثله من تهديد لمصير آلاف العاملين وأسرهم، وما يثيره من شجون ترتبط بآمال عقدت على صرح كبير كان وما زال ممكناً تحويله إلى مصدر هام لإيرادات الدولة، ولن أتطرق إلى مناقشة اقترابه من تحقيق هذا الهدف أو خسارته لمليارات الجنيهات، ولكن أشير فقط إلى أن الخطوة كانت نتيجة منطقية لما سبقها من فشل، وأن الأمر لن يتوقف عند المجمع العزيز على أغلب المصريين، حيث ينذر استمرار إدارة أصول الدولة بنفس الأسلوب بلحاق ما تبقى من شركات القطاع العام بها في القريب العاجل.
تعاني مصر من عجز مزمن في الميزان التجاري، وكذا في الحساب الجاري وميزان المدفوعات، والأخير يمثل، قبل الاقتراض لسد العجز، حصيلة تعاملات الدولة مع العالم الخارجي، فإما أن تحقق فائضاً عند بيعها للعالم الخارجي سلعاً وخدمات أكثر مما تشتري منه، أو تعاني عجزاً في الحالة العكسية. وللتبسيط، يمكن تشبيه ما يعكسه ميزان المدفوعات للدولة بحالة الأسرة، في أي مجتمع، تتعامل مع الجيران بيعاً وشراءً للسلع والخدمات طوال العام، إلى أن يحين موعد الحساب النهائي في نهاية العام، لتدفع الأسرة ما عليها للجيران في حالة وجود عجز في تعاملاتها معهم، أو تُحصل ما يستحق لها لو كان لديها فائضاً.
ولما كانت الأسرة (وهي هنا الدولة المصرية) تعاني عجزاً، فإن أول ما تلجأ إليه هو السحب من مدخراتها في البنوك لتدفع ما عليها للجيران، وهي هنا تماثل احتياطيات النقد الأجنبي التي تحتفظ بها الحكومة. وعلى مدار السنوات السابقة، سحبت أسرتنا من مدخراتها لدى البنوك كل ما أمكن سحبه، قبل أن يتفق أفرادها على أن ما تبقى اقترب من الحد الأدنى المطلوب لسداد فواتير الطعام والدواء التي لا يمكن تأجيل سدادها، وهو ما فرض على الأسرة البحث عن مصدر آخر لسد العجز.
في المرحلة التالي، تلجأ الأسرة للاقتراض، وهو ما يضعها في موقف شديد الصعوبة، أولاً لأن من يقرضها يعرف أنها تقترض لسداد مديونيات سابقة، وثانياً لأن ما اقترضته الأسرة خلال السنوات السابقة لم يسهم في حل مشكلاتها المزمنة، ولم يزدها إلا ديوناً، ولأن أولياء الأمر في الأسرة لم يظهروا أي قدرة أو رغبة حقيقية في سداد ما اقترضوه من قبل.
لكن أسوأ ما تتعرض له الأسرة التي تطلب الاقتراض في تلك الظروف يظهر في ارتفاع التكلفة التي تدفعها، مادياً ومعنوياً، سراً وعلانيةً، ما تتحمله الأسرة بصورة رسمية، وما تلقي تبعاته على أفرادها في صورة تقليص المبالغ والخدمات الممنوحة لهم، وزيادة ما تفرض عليهم دفعه لسداد الأموال التي تقترضها، بفوائدها.
اقترضت الأسرة من كبير المرابين في المنطقة، فدفعها لتعديل الكثير من أوجه الإنفاق لديها، وخفض ما تمنحه لأبنائها، وفرض تغيير الكثير من سياساتها. وفي نفس الوقت، جاء العم والخال ليعرضا المساعدة بقروض إضافية، إلا أنهما استغلا الظروف الصعبة التي تمر بها الأسرة، فطلبا الحصول على أجزاء من البيت الذي تسكنه، كما أبرما العديد من الصفقات التي لم يعرف تفاصيلها إلا أولياء الأمر، رغم أن أفراد الأسرة هم عادة من يتحملون تبعاتها.
وفي أغلب الأحوال لا تنتهي مرحلة الاقتراض إلا وتكون الأسرة قد دخلت في المرحلة التالية، فتضطر للتخلي عن بعض قطع الأثاث الموجودة في البيت، مهما كان احتياج الأسرة لها أو اعتزازها بها، مقابل الحصول على الأموال المطلوبة لسداد العجز. ولو وافق المشترون على شراء بعض القطع المهملة التي لا ترجى منها فائدة، فمن الطبيعي أن تتطلع أعينهم لقطع الأثاث الهامة التي يمكن بإجراء بعض الإصلاحات بها أن تدر عليهم الأموال الطائلة، وهو ما يبدو أنهم وجدوه في مجمع الحديد والصلب، رغم ما تسابقت وسائل الإعلام المصرية في الحديث عنه من خسائر بالمليارات.
وفي مقال حديث منشور على العديد من المواقع، نقل المحامي المعروف خالد علي عن تقرير الشركة الذي أعدته وعرضته على الجمعية العمومية غير العادية التي عقدت الأسبوع الماضي للنظر في استمراريتها أن "شركة الحديد والصلب المصرية تقدمت للشركة القابضة بخطة إنقاذ عاجلة للحفاظ على استمرارية الشركة، وتطوير إنتاجها بما يساعد على تعظيم أرباحها وسداد ديونها"، مشيراً إلى أن مقترح الخطة الاستثمارية لتحقيق نقطة التعادل مدته عامان فقط من 2021 حتى 2023، ومؤكداً أن الشركة، رغم وضعها الحالي ما زالت قادرة على سداد كافة ديونها من خلال تعظيم استثمار الأصول غير المستغلة من أراض وشقق وفيلات ومخازن تملكها.
الشركة لن تباع لأنها خاسرة، ولكنها ستباع لأن كبير المقرضين أمر بذلك، ولأن أبناء العم والخال يبحثون عن قطعة أثاث يشترونها مقابل ما قدموه وسيقدمونه من أموال، ولو تمادت الأسرة في تجاهلها لمشكلة عجز ميزان المدفوعات فسنجد أثاث البيت يباع قطعة بعد الأخرى، وسيأتي المشترون للاستمتاع بما اشتروا، بينما يُحرم أفراد الأسرة من ممتلكاتهم، ولن يختفي العجز.