يوم الجمعة 8 إبريل/نيسان الماضي، وفي نهاية جولة المباحثات التي قامت بها بعثة صندوق النقد الدولي في لبنان، أعلن الجانب اللبناني عن توصّله لتفاهم مبدئي مع بعثة الصندوق، فيما أصرّ بيان الصندوق الرسمي على التحفّظ وتوصيف ما تم التوصّل إليه بالاتفاق على مستوى الموظفين بين بعثة الصندوق والوفد اللبناني المفاوض.
في كل الحالات، من الأكيد أنّ الحدث يمثّل بحد ذاته خطوة إيجابيّة في مسار محادثات لبنان مع صندوق النقد، لكن تصوير هذا الاتفاق كخطوة كفيلة بتعبيد الطريق نحو دخول البلاد برنامج القرض مع الصندوق ينطوي على إفراط غير واقعي في التفاؤل. بل في واقع الأمر، يمكن القول إن درب الوصول إلى تفاهم نهائي مع صندوق النقد ما زالت مليئة بالألغام والعثرات، بمعزل عن التفاهم الحاصل على مستوى الموظفين.
إيجابيّة التفاهم المبدئي، تكمن في أن صندوق النقد لخّص أمام اللبنانيين وبشكل مكتوب ما هو مطلوب منهم من شروط وإصلاحات، قبل الوصول إلى التفاهم النهائي ودخول برنامج القرض. كما أن هذا التفاهم أوجز ما يمكن توقّعه من برنامج القرض من ناحية المبلغ الممكن الحصول عليه، والذي يقارب ثلاثة مليارات دولار، سيتم تلقيها على مدى 46 شهرا على دفعات مربوطة بتقدّم لبنان في مسار التصحيح المالي الذي يفترض أن يتم الالتزام به.
هكذا، وعلى أساس الاتفاق المبدئي المعقود، بات بإمكان اللبنانيين أن يعرفوا سقف القرض الذي يمكن أن يقدّمه الصندوق، كما بات بإمكانهم أن يعرفوا نوعيّة السياسات الماليّة والنقديّة التي يجب أن تسير عليها الدولة اللبنانيّة، إذا أرادت سلوك درب برنامج القرض.
مع الإشارة إلى الكثير من الخطوات والإصلاحات التي يضعها الصندوق كشروط حاسمة، كانت طوال الفترة الماضية موضوع تكهّنات غير دقيقة من قبل المحللين والمسؤولين المحليين، بحسب ما يتم تسريبه من المحادثات، فيما كانت تصريحات مسؤولي الصندوق تركّز على العناوين العريضة بدل مصارحة الرأي العام اللبناني بتفاصيل الخطوات المطلوبة من الجانب اللبناني.
وبذلك حسم التفاهم المبدئي اليوم كل هذه التكهّنات، وسحب من السياسيين ورقة التحجج بمتطلّبات صندوق النقد، عند اتخاذ الخطوات غير الشعبيّة. فطوال الفترة الماضية، كانت متطلبات صندوق النقد مجرّد شمّاعة يتم استخدامها لتبرير القرارات المؤلمة على المستوى المعيشي، حتّى حين لا تكون هذه القرارات مرتبطة بالفعل بمتطلبات صندوق النقد أو المحادثات معه.
أمّا أهم ما في الموضوع، فهو وضع حد لتقاذف المسؤوليّات الحاصل بين المرجعيات الدستوريّة والإداريّة في لبنان، بخصوص الأسباب التي تعرقل تقدّم المحادثات وتطبيق الإصلاحات المطلوبة من الصندوق، بعد أن وضّح التفاهم المبدئي الخطوات المطلوبة من لبنان ببيان رسمي صادر عن الصندوق.
فالغموض الذي أحاط سابقًا بمسار المحادثات منذ عام 2020، لجهة مضامين هذه المحادثات ومطالب الصندوق التفصيليّة، حوّل تعثّر مسار التفاهم مع صندوق النقد إلى موضوع تجاذب محلّي، من ناحية الجهة التي تتحمّل مسؤوليّة عرقلة مسار التصحيح المالي الذي يطلبه الصندوق.
لكن كل ما سبق ذكره من إيجابيّات تحيط بالتفاهم المبدئي المستجد، لا يفترض أن تدفعنا للتفاؤل بمستقبل مسار التفاهم مع صندوق النقد، وتحديدًا لجهة احتمالات التوصّل لتفاهم نهائي ودخول برنامج القرض.
فما يطلبه صندوق النقد في التفاهم المبدئي، كشروط مسبقة قبل توقيع التفاهم النهائي، ليست سوى نفس الشروط التي فشل لبنان في تحقيقها طوال السنتين الماضيتين، والتي نتج عنها عرقلة جولات التفاوض السابقة وإبطاء وتيرتها.
ومن الناحية العمليّة، وبغياب القيادة السياسيّة القويّة، وفي ظل عدم وجود نيّة لفرض هذه الإصلاحات من جانب الطبقة السياسيّة، لا يوجد ما يمنع عرقلة مسار التفاهم مع الصندوق في المستقبل عبر التمنّع عن تنفيذ هذه الإصلاحات المطلوبة، تمامًا كما حصل خلال السنتين الماضيتين.
هذه الحقيقة، تتصل بشكل وثيق بطبيعة الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد اليوم قبل المضي بالتفاهم النهائي، والتي تتعارض بطبيعتها مع مصالح السياسيين الممسكين بزمام الأمور في لبنان.
فمن بين هذه الإصلاحات والشروط مثلًا، تعديل قانون السريّة المصرفيّة، بما يسمح بتسهيل الكشف عن الجرائم الماليّة التي حصلت في الماضي، وتتبع خيوطها داخل النظام المصرفي اللبناني.
وهذا النوع من الخطوات، إن حصل، سيسمح حكما بتسهيل الوصول إلى المعلومات الماليّة القادرة على إدانة المتورّطين في الصفقات المشبوهة التي قامت على اختلاس المال العام، والتي تورّطت بها الغالبيّة الساحقة من القوى السياسيّة التي شاركت في الحكم.
كما يطلب صندوق النقد أيضا وضع استراتيجيّة داخل الحكومة اللبنانيّة، لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، بعد الاعتراف بشكل مباشر ومسبق بجميع الخسائر المتراكمة في القطاع، فيما يطلب الصندوق من المجلس النيابي إقرار ما يلزم من تشريعات لتطبيق هذه الاستراتيجيّة.
وهذه الخطوات تتعارض أيضا مع مصالح الفئات النافذة داخل النظام المالي، والتي حرصت طوال السنتين الماضيتين على تحييد القطاع المالي عن عمليّات إعادة الهيكلة القسريّة، مقابل تبنّي مبدأ إعادة الهيكلة الطوعيّة، أي فتح الباب أمام عمليّات الدمج والاستحواذ الاختياريّة بحسب معايير الملاءة التي يضعها المصرف المركزي.
ومن المعلوم أن تحفّظ النخبة الماليّة في البلاد سيدفع باتجاه عرقلة هذا النوع من الخطط والمقاربات داخل المؤسسات الدستوريّة، بالنظر إلى تشابك المصالح ما بين النظام السياسي اللبناني وكبار النافذين في النظام المالي.
فعلى سبيل المثال، يوم وضعت حكومة حسّان دياب خطتها للتعافي المالي خلال عام 2020، تجنّدت الغالبيّة الساحقة من الكتل النيابيّة لإطاحة مقاربات الخطّة، نظرًا لتوجهها في ذلك الوقت إلى مبدأ الاعتراف الفوري والصريح بالخسائر المتراكمة، وشطب الرساميل المصرفيّة، وإعادة هيكلة القطاع للتعامل مع جزء من هذه الخسائر.
ولهذا السبب، من المتوقّع أن تواجه المقاربات التي يطلبها صندوق النقد اليوم العراقيل ذاتها، وللأسباب نفسها، خصوصا أن صندوق النقد يطلب اليوم شطب الرساميل المصرفيّة كباب من أبواب معالجة الخسائر، بالتوازي مع عمليّة إعادة هيكلة القطاع.
في كل الحالات، وبحسب بيان صندوق النقد الأخير، تشمل شروط الصندوق العديد من الإصلاحات الأخرى التي تتعارض مع مصالح النافذين داخل النظام المالي، من قبيل إعادة تقييم الأصول العائدة لأكبر 14 مصرفا في البلاد، بما يسمح بالوقوف عند حجم الخسائر الموجودة في ميزانيّات هذه المصارف. كما طلب الصندوق أن تشرف شركة دوليّة ذات مصداقيّة على هذا التقييم، بدل الاكتفاء برقابة المصرف المركزي.
وهذا النوع من الإجراءات، سيفتح الباب عمليًّا أمام إعادة تقييم رساميل أصحاب هذه المصارف وتحجيمها، قبيل الشروع بعمليّة إعادة الهيكلة وتحميل الرساميل جزءًا من الخسائر عبر شطبها، ومن ثم إعادة رسملة المصارف بإدخال مساهمين جدد إلى القطاع.
كل ما سبق، يقودنا إلى الاستنتاج بأن درب الوصول إلى برنامج قرض الصندوق لن يكون نزهة سهلة بالنسبة إلى الدولة اللبنانيّة، حتّى بعد توقيع الاتفاق المبدئي الأخير. المستجد الوحيد اليوم، هو أنّ ما يريده صندوق النقد بات أوضح أمام الجميع في الاتفاق المبدئي الذي حصل، فيما ستكون الطبقة السياسيّة في لبنان أمام امتحان نيّتها فرض هذه الإصلاحات.
الإشكاليّة الأساسيّة هنا، أنّ الدولة اللبنانيّة لا تملك في الوقت الراهن أي بدائل أو رهانات غير برنامج القرض الموعود، ما يعني أن كلفة عرقلة مسار التفاهم مع صندوق النقد ستكون باهظة في المستقبل.