لبنان وصندوق النقد: المسار المعلّق

16 ابريل 2024
أمام مركز مصرف لبنان في بيروت (حسين بيضون)
+ الخط -
اظهر الملخص
- بعد عامين من الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي، يواجه لبنان تحديات في تنفيذ الشروط المطلوبة لمعالجة أزمات الدين السيادي والنظام المصرفي، مما يعيق انضمامه لبرنامج التمويل.
- لبنان يفتقر إلى التقدم في التفاوض مع الدائنين لإعادة هيكلة الديون، مع تحذيرات من صندوق النقد الدولي بأن الأزمة قد تصبح دائمة، مما يؤكد على الحاجة لشهادة ثقة دولية لدعم المفاوضات.
- العقبات تشمل فشل لبنان في تنفيذ الإصلاحات المالية والنقدية ومعالجة خسائر القطاع المصرفي، بينما تعرقل الطبقة السياسية والمالية الاتفاق مع الصندوق لحماية مصالحها، مما يزيد من مخاطر الأزمات المالية والاقتصادية.

بحلول شهر نيسان/أبريل من هذا العام، يكون قد مرّ عامان بالضبط على توقيع الاتفاق على مستوى الموظفين بين لبنان وصندوق النقد الدولي. ذلك الاتفاق المبدئي، حدّد للبنان مجموعة من الشروط التي يفترض تنفيذها، على مستوى أزمات الدين السيادي والنظام المصرفي والماليّة العامّة، كي يتم قبول البلاد ضمن برنامج التمويلي مع الصندوق.

وحتّى هذه اللحظة، مازال ذلك المسار معلّقًا، تمامًا كحال خطّة الحكومة الماليّة وسائر الملفّات المتعلّقة بالأزمة الاقتصاديّة. خلال السنوات الأربع الماضية، تخلّفت عشر دول نامية –من بينها لبنان- عن سداد ديونها السياديّة، لأسباب اقتصاديّة وماليّة متباينة. وجميع هذه الدول، باستثناء لبنان، تمكنت من التفاوض مع دائنيها على برامج لإعادة هيكلة الديون، من أجل العودة إلى أسواق الدين العالميّة. وفي ثماني حالات، أنجزت هذه الدول المتعثّرة اتفاقات تمويليّة مع صندوق النقد، لإقناع الدائنين بجديّة خطط التصحيح الماليّة.

ووحده لبنان، من بين الدول التي تعثّرت منذ العام 2020، لم يبدأ بعمليّة التفاوض مع الدائنين أصلًا. على هذا النحو، لم يضع لبنان منذ بداية أزمته خططًا تصحيحيّة تعفيه من الحاجة لبرامج صندوق النقد، وفقًا للموارد المتاحة في البلاد. وبعد التخلّف عن سداد الديون، وحصر الخيارات الحكوميّة بتلك التي تمرّ عبر برامج صندوق النقد، لم تلتزم الطبقة السياسيّة اللبنانيّة برزمة الإصلاحات المتفق عليها مع الصندوق.

وبهذا الشكل، بات لبنان يواجه احتمالات السير في "أزمة لن تنتهي أبدًا"، وبعواقب "لا رجعة فيها"، كما حذّر الصندوق اللبنانيين قبل عام في بيانه. في واقع الأمر، ثمّة من يسأل اليوم عن سرّ حاجة لبنان لصندوق النقد، في هذه المرحلة بالذات من الأزمة. إذ إن حجم التمويل الموعود، بحسب الاتفاق على مستوى الموظفين، لن يتخطّى الثلاثة مليارات دولار، سيحصل عليها لبنان خلال فترة تصل إلى 46 شهرًا.

وكما هو معلوم، لا يمثّل هذا التمويل سوى جزء يسير من فجوة خسائر النظام المالي، التي يتخطى حجمها حدود الـ 73 مليار دولار، ومن القيمة الاسميّة لسندات اليوروبوند المستحقة، التي تتجاوز الـ 31.31 مليار دولار من دون الفوائد.

غير أن الحاجة لبرنامج صندوق النقد حاليًا، لم تعد ترتبط بقيمة التمويل الزهيد نفسه. فبعد أربع سنوات من التعثّر في سداد سندات الدين السيادي، وبعد فشل لبنان المتكرّر في تنفيذ الإصلاحات الماليّة والنقديّة، باتت الحكومة تحتاج إلى برنامج الصندوق كشهادة ثقة دوليّة، قبل التفاوض مع الدائنين وإقناعهم بإعادة هيكلة ديونهم. بهذا المعنى، بات برنامج صندوق النقد ضمانة تؤكّد للدائنين أنّ هناك طرفا خارجيا، سيواظب على مراقبة تنفيذ لبنان لخطة التعافي الماليّة المُعلنة.

وثمّة ضرورة دائمة للتذكير بأنّ وصفات الصندوق المعروفة مُنيت بالفشل في الكثير من البلدان، وهو ما يفرض الحذر من استيراد خططه المعلبة والجاهزة، من دون الالتفات إلى الخصوصيّات المحليّة. لكن بالنسبة للدائنين، سيوفّر الصندوق عامل اطمئنان، من خلال المُراجعة الفصليّة التي يُجريها، قبل صرف كل شريحة من شرائح القرض.

فأصحاب السندات باتوا يدركون أنّ أي رقابة خارجيّة، مهما كان نوعها، ستبقى أفضل من الاتكال على طبقة سياسيّة لم تُثبت جدارتها بإدارة أزمة من هذا النوع. في الوقت نفسه، من المعلوم أن معظم الجهات الدوليّة المانحة والمُقرضة، التي ينتظر لبنان دعمها خلال مسار التعافي المالي، باتت تربط تقديم التمويل بدخول لبنان في برنامج صندوق النقد.

فعلى سبيل المثال، ثمّة 11 مليار دولار من الاستثمارات والهبات والقروض المرصودة للبنان، منذ عقد مؤتمر "سيدر" عام 2018. لكن استكمال برامج الدعم المنصوص عنها في المؤتمر بات متعذّرًا، بعد تعثّر لبنان في سداد ديونه عام 2020، بانتظار توقيع الاتفاق النهائي مع صندوق النقد.

أمّا الأهم، فهو أن استقطاب الاستثمارات والودائع إلى النظام المالي، بعد إعادة هيكلته ومعالجة فجواته، سيكون صعبًا، من دون مسار متفق عليه مع جهة دوليّة، لمراقبة عودة الانتظام إلى القطاع المصرفي. فمرور القطاع بأربع سنوات من التعثّر، وامتناعه عن سداد الودائع لمستحقيها، أفقده الثقة في أسواق المال وعلى مستوى المودعين. والعودة إلى المنافسة واجتذاب التحويلات من الخارج، باتت تستدعي إشراك الصندوق في الإشراف على خطّة إعادة الهيكلة.

في بداية الأزمة، كان من الممكن أن تعمل الحكومة اللبنانيّة على خطّة ماليّة شاملة بالاتفاق مع الدائنين والمصارف، لإعادة جدولة الديون العامّة وتصحيح وضعيّة القطاع المصرفي المحلّي، من دون المرور بصندوق النقد. لكن بعد التخلّف عن دفع السندات السياديّة، وتعثّر القطاع المصرفي المحلّي، ومن ثمّ مرور أربع سنوات من دون تنفيذ أي خطّة تعاف ماليّة، لم تعد الدولة اللبنانيّة تملك المصداقيّة الدوليّة اللازمة لعقد تفاهمات من هذا النوع، إلا بعد الاستحصال على دعم ومراقبة صندوق النقد. على مستوى السياسة النقديّة، يمكن القول إن لبنان حقّق خلال الفترة الماضية الشروط الأساسيّة التي نصّ عليها الاتفاق على مستوى الموظفين مع صندوق النقد.

فأسعار الصرف المعتمدة من قبل مصرف لبنان ووزارة الماليّة، في الغالبيّة الساحقة من المعاملات المصرفيّة والضريبيّة، باتت موازية لسعر صرف السوق السوداء.

وبهذا الشكل، لم تتمنّع السلطتان النقديّة والسياسيّة عن تنفيذ شروط الصندوق القاسية على المستوى المعيشي أو الشعبي، مثل تصحيح أسعار الصرف المعتمدة لاستيفاء الرسوم والضرائب وفواتير الخدمات العامّة. لكن في المقابل، مازالت العقدة الأساسيّة، التي تحول دون استكمال تنفيذ باقي الشروط، تكمن في الجانب المتعلّق بمعالجة خسائر القطاع المصرفي. إذ مازالت النخب الماليّة والسياسيّة تتمنّع عن تنفيذ مطالب الصندوق المتعلّقة بتدقيق ميزانيّات المصارف التجاريّة، ووضع قانون خاص لإعادة هيكلة القطاع المصرفي.

وخلال شهر شباط/فبراير الماضي، نجحت جمعيّة المصارف في فرض شروطها على الحكومة اللبنانيّة، من خلال سحب مسودّة مشروع قانون إعادة الهيكلة عن طاولة مجلس الوزراء. بهذا المعنى، باتت عرقلة الاتفاق مع الصندوق حرصًا على مصالح هذه النخب بالتحديد. أمّا الجانب الأخطر من الأزمة الراهنة، فهو أنّ السلطة السياسيّة لم تباشر بعد التفاوض مع حملة سندات الدين السيادي، لوضع خطّة إعادة هيكلة الدين، كما نص الاتفاق مع الصندوق. وهذا ما يفتح المجال أمام انتقال الدائنين لرفع الدعاوى القضائيّة خلال الفترة المقبلة، في وجه لبنان، ما قد يعقّد المشهد المالي إلى حد بعيد.

مع الإشارة إلى أنّ عقود سندات اليوروبوند تعطي الدائنين مهلة تنتهي خلال شهر آذار/مارس المقبل، أي بعد خمس سنوات من تخلّف الدولة عن الدفع، للمطالبة القانونيّة بفوائد السندات. خلال الأشهر الماضية، تقدّمت ثلاث كتل نيابيّة أساسيّة بمشاريع قوانين لمعالجة أزمة الودائع المصرفيّة، بآليّات تنص على تحويل الودائع إلى ديون عامّة على الدولة.

هذه الآليّات، المتعارضة جذريًا مع معايير صندوق النقد لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، باتت الرهان البديل عن الاتفاق المتعثّر مع الصندوق. وهذا تحديدًا ما يتطابق مع مصالح وتطلّعات اللوبي المصرفي، الذي ضغط منذ البداية لمنع أي إعادة هيكلة جديّة وشاملة للقطاع المصرفي.

المساهمون