طوال الأسبوعين الماضيين، عقدت بعثة صندوق النقد الدولي مشاوراتها التمهيديّة مع الوفد الحكومي اللبناني المكلّف بالتفاوض مع الصندوق، للبحث في الخطوط العريضة لخطة الحكومة اللبنانيّة للتعافي المالي، ومقاربات هذه الخطّة لتقدير الخسائر المصرفيّة والتعامل معها.
وبذلك، مضت الحكومة اللبنانيّة في مسار مناقشة مقاربات خطتّها مع الصندوق، قبل عرض هذه الخطّة أمام الرأي العام، ومن دون مناقشة آثارها على الشرائح الاجتماعيّة المختلفة.
باختصار، كان هناك ما يكفي من أسباب ليرتاب اللبنانيون من مضامين هذه الخطّة الماليّة، من جهة طريقة صياغتها والتفاوض عليها بشكل ملتبس بعيداً عن الأضواء، وبأقل قدر من الشفافيّة في التعامل مع هذا الملف.
وفي ختام جولة المحادثات بين بعثة الصندوق والوفد الحكومي اللبناني، بدأت وكالة "رويترز" ووسائل إعلام محليّة أخرى بنشر أجزاء من مقاربات الخطة الماليّة الحكوميّة التي جرت مناقشتها، على شكل تسريبات غير رسميّة، بدل أن يتعرّف الجمهور من الحكومة نفسها على كامل تفاصيل الخطّة، التي ستحدد هويّة الاقتصاد اللبناني على مدى أكثر من عقد ونصف من الزمن.
أمّا النقابات التي تمتلك صناديقها التعاضديّة والتقاعديّة جزءا وازنا من الودائع المصرفيّة المتأثرة بالخطة، وروابط المودعين، فلم يتم مناقشتها بمقاربات الخطّة للتعامل مع الودائع المصرفيّة، بالرغم من كون هذه الجهات تمثّل أصحاب المصلحة الذين يفترض أن يشاركوا في صياغة هذه الخطّة قبل عرضها على الصندوق.
في أيّ حال، ما إن بدأت وسائل الإعلام بتسريب مقاربات الخطّة الحكوميّة، حتّى تبيّن أنّ ما تم طبخه في هذه الخطّة بعيداً عن الأضواء ينطوي على تداعيات شديدة الخطورة على الاقتصاد المحلّي وسلامة النقد الوطني، وعلى حقوق المودعين في النظام المصرفي اللبناني.
فببساطة شديدة، ما أعدّه الوفد الحكومي من مقاربات يتركّز بشكل مفرط على مبدأ تسييل الخسائر، أي خلق النقد بالعملة المحليّة للتعامل مع خسائر النظام المصرفي اللبناني، عبر سداد الودائع المدولرة بالعملة المحليّة.
وفي النتيجة، وعلى مدى 15 سنة من الزمن، ستستمر الدولة اللبنانية، بحسب الخطة المقترحة، بطباعة النقد لتقسيط التزامات المصارف للمودعين، وهو ما سيكون كفيلاً بتعميق الاختلالات النقديّة طوال هذه المدّة.
لفهم هدف هذه المقاربة الخطرة، ينبغي أولاً العودة إلى مفهوم الخسائر المصرفيّة المتراكمة، التي أدّت إلى أزمة السيولة القائمة اليوم في النظام المالي اللبناني.
فهذه الخسائر، التي تقدّرها الخطة الحكوميّة بنحو 69 مليار دولار، نشأت بشكل أساسي من الفارق بين التزامات النظام المصرفي اللبناني للمودعين بالعملات الأجنبيّة، وما تبقى من سيولة بالعملة الصعبة بحوزة المصارف التجاريّة والمصرف المركزي.
ومن الناحية العمليّة، تتوزّع أسباب هذه الخسائر ما بين الدولارات التي بددها المصرف المركزي من أموال المودعين لتثبيت سعر الصرف، وما خسرته المصارف التجاريّة جرّاء توظيفاتها بسندات الدين السيادي المقومة بالعملات الأجنبيّة، والتي تعثّرت الدولة بسدادها.
اليوم، ولمعالجة هذه الخسائر المصرفيّة، أو الفجوة ما بين الالتزامات والموجودات المصرفيّة بالعملة المصرفيّة، تطمح الخطة الحكوميّة لسداد 55% من الودائع المصرفيّة المقومة بالعملات الأجنبيّة بالعملة المحليّة، أي عبر طباعة النقد لسداد هذه الودائع بالليرة اللبنانيّة، وبالتقسيط على مدى عقد ونصف من الزمن. مع الإشارة إلى أنّ الحكومة قررت اعتماد أسعار صرف متفاوتة لسداد هذه الودائع، بحسب شرائح المودعين المشمولين بهذه الخطّة.
النتيجة البديهيّة الأولى لهذه الخطة، ستكون الاستمرار بتهشيم قيمة الليرة اللبنانيّة في سوق القطع، نتيجة حجم الأموال التي سيتم ضخها بالعملة المحليّة للتعامل مع الأزمة المصرفيّة بهذا الشكل.
فحجم الودائع التي سيتم سدادها بالليرة بحسب الخطة، يتجاوز 57 مليار دولار، فيما سيبلغ حجم الكتلة النقديّة المطلوب خلقها بالليرة اللبنانيّة لسداد هذه الودائع 15 ضعف الكتلة النقديّة المتداولة حاليّاً في السوق بالعملة المحليّة، بحسب أسعار الصرف التي حددتها الخطة لسداد كل نوع من أنواع الودائع المصرفيّة.
وإذا تم تقسيط هذه الودائع على مدى 15 سنة كما تنص الخطّة، فستكون النتيجة إضافة كتلة من السيولة بالليرة اللبنانيّة كلّ سنة، توازي بقيمتها الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة حاليّاً.
لهذا السبب بالتحديد، أبدت بعثة صندوق النقد تحفّظها على هذه الطريقة المقترحة للتعامل مع الخسائر المصرفيّة، لكونها ستأسر المصرف المركزي على مدى عقد ونصف بسلسلة طويلة من العمليّات التي ستزيد من عمق الأزمة النقديّة، من خلال أثر هذه العمليّات على قيمة العملة المحليّة.
ومع كلّ تدهور إضافي في قيمة الليرة، نتيجة التوسّع في طباعة النقد، ستزداد قيمة سندات الدين العام المقومة بالعملة الصعبة، مقارنةً بقيمة مداخيل الدولة المقومة بالعملة المحليّة، وهو ما سيفاقم بدوره من أزمة تعثّر الدولة في سداد التزاماتها.
وبهذه الطريقة، ستكون خطة الحكومة قد عالجت الأزمة المصرفيّة من جهة، لكن على حساب تعميق أزمتي تدهور سعر الصرف وتعثّر ماليّة الدولة من جهة أخرى. كما ستدفع الفئات المحدودة الدخل كلفة هذه المعالجات، نتيجة الانخفاض المرتقب في قيمة أجورها الشرائيّة، بالتوازي مع التدهور المتوقّع في قيمة الليرة.
بمعزل عن آثار الخطة المدمرة على المستوى النقديّة، من المتوقّع أن ينتج عن هذه الخطوة المزيد من الإجحاف بحق المودعين، نتيجة الفارق ما بين سعر صرف الدولار في السوق الحرّ، وأسعار الصرف المعتمدة في الخطة لسداد الودائع المدولرة بالليرة.
فبالنسبة إلى بعض شرائح الودائع، سينتج عن هذا الفارق اقتصاص بنسبة 75% من قيمة الودائع المصرفيّة، وهو ما سيعني تحميل المودعين الجزء الأكبر من خسائر النظام المصرفي.
ومن ناحية طريقة توزيع الخسائر، ونتيجة هذا الاقتصاص من قيمة الودائع المصرفيّة، سيكون أصحاب الودائع المصرفيّة قد تحمّلوا 54% من قيمة الخسائر المصرفيّة، كما قدّرتها الخطة الماليّة نفسها.
مع الإشارة إلى أنّ أصحاب الودائع سيحتاجون إلى الانتظار لفترة زمنيّة تصل إلى حدود 15 سنة لتحصيل حقوقهم، حتّى بعد الاقتصاص من قيمة ودائعهم، نتيجة اعتماد مبدأ تقسيط الودائع طوال هذه المدّة.
بعض أجزاء الخطة الأخرى، تنطوي على مخاطر من نوع مختلف، من قبيل تخصيص أصول عامّة وشركات مملوكة من قبل الدولة اللبنانيّة، بقيمة تتجاوز العشرة مليارات دولار، لربطها بسندات يمكن منحها للمودعين للتعويض عن قيمة ودائعهم المحتجزة في النظام المصرفي اللبناني. وبهذه الطريقة، عادت الخطة إلى مبدأ تخصيص الأموال العامّة لإنقاذ النظام المصرفي اللبناني المتعثّر، وهو مبدأ حذّرت منه شركة "لازارد" - الاستشاري المالي للدولة اللبنانيّة- منذ بداية الأزمة الماليّة.
في المحصّلة، ستكون الخطة الحكوميّة قد اعتمدت مبدأ تحميل قيمة الليرة اللبنانيّة وزر الخسائر المصرفيّة بالدرجة الأولى، ما سيعني تحميل هذه الخسائر إلى قيمة أجور المقيمين ومستوى معيشتهم. كما ستكون قد اعتمدت مبدأ تحميل المودعين هذه الخسائر بالدرجة الثانيّة، وتحميل أصول الدولة اللبنانيّة وممتلكاتها الجزء الثالث من هذه الخسائر.
وبهذا الشكل، ومن خلال كلّ هذه الإجراءات، ستكون الخطّة قد ذهبت باتجاه تحميل المجتمع اللبناني بأسره كلفة إخراج النظام المصرفي من حالة التعثّر التي يمرّ بها.