لبنان نحو تعويم الليرة: مخاوف من ركض بلا نهاية وراء الدولار

02 أكتوبر 2022
مواطنون يحتجون على قيود سحب الودائع من البنوك (حسين بيضون)
+ الخط -

لم تبدد تصريحات رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان نجيب ميقاتي حول تطبيق سعر صرف الليرة الجديد مقابل الدولار، مخاوف المواطنين من تعمق الأزمات المعيشية والمالية، إذ يتشكك كثيرون في نجاح قرار زيادة سعر العملة رسمياً بأكثر من ثمانية أضعاف لتقليص الفجوة مع السوق السوداء، وإنما سيظل الركض وراء الدولار مستمراً بلا نهاية في ظل عدم وجود سياسات حقيقية لوقف الانهيار الاقتصادي والمالي للبلاد.

وخرج ميقاتي، يوم الجمعة، ليزيل ما وصفه بـ"اللبس" في التصريحات المقتضبة التي أطلقها وزير المالية يوسف الخليل، يوم الأربعاء الماضي، حول تطبيق سعر صرف الليرة الرسمي الجديد البالغ 15 ألف ليرة للدولار بدلا من 1507 ليرات، مشيرا إلى أن تطبيق السعر الجديد سيكون تدريجيا، وأنه جاء في إطار جهود الدولة لتوحيد العديد من أسعار الصرف التي ظهرت خلال الأزمة المالية؛ حيث وصل سعر السوق إلى 38 ألف ليرة للدولار.

أطلق وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال قرار تغيير سعر الصرف الرسمي بتصريح صحافي مقتضب لوكالة رويترز، من دون أن يشرح حيثياته والخطوات المترافقة معه ليترك اللبنانيين أمام قلق متصاعد من تأزم الأوضاع المعيشية، قبل أن تبدأ وزارته بإرسال البيانات التوضيحية التي بقيت مبهمة أيضاً ولم تجب عن الكثير من تساؤلات الناس.

ووفق الوزارة سيطبق سعر الصرف الجديد اعتباراً من أول نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وذلك "بعدما أقر مجلس النواب الموازنة العامة للعام 2022، حيث اعتمد سعر صرف 15 ألف ليرة مقابل الدولار، وبعدما بات من الملحّ تصحيح تداعيات التدهور الحاد في سعر الصرف وتعدديته على المالية العامة، وذلك تقليصاً للعجز وتأميناً للاستقرار المالي".

وأضافت الوزارة أن السلطات المالية والنقدية ستعمل على احتواء أي تداعيات على الأوضاع الاجتماعية للمواطن اللبناني على سبيل المثال القروض السكنية، وكذلك على مساعدة القطاع الخاص على الانتقال المنظم إلى سعر الصرف الجديد المعتمد.

لكن رئيس حكومة تصريف الأعمال قال لرويترز، يوم الجمعة، إن "تصريح وزير المالية أظهر وكأنّ كل الأمور ستطبّق في لحظة واحدة، لا، ستكون هناك استثناءات وأشياء تنفذ بمراحل معينة لكي تنتظم الأمور"، موضحا أن سعر 15 ألف ليرة سينطبق مبدئياً على "الرسوم الجمركية، وعلى البضائع المستوردة، وعلى القيمة المضافة، أما الباقي فسيتم تدريجياً عبر تعاميم وقرارات تصدر عن حاكم مصرف لبنان تحدد هذا الموضوع".

لكن هذه التطمينات قوبلت بالكثير من الشكوك، لا سيما في ظل استمرار التدهور المعيشي منذ أكثر من نحو ثلاث سنوات بفعل الانهيار الاقتصادي والمالي. كما أن توحيد سعر الصرف يُعد أحد المطالب المنصوص عليها في مسودة اتفاقية على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي في إبريل/نيسان.

تفاقم معاناة المواطنين

يقول خبراء اقتصاد إن تغيير سعر الصرف الرسمي، تمهيداً لتوحيده، خطوة ضرورية ولكنها ناقصة وعشوائية وغير مدروسة، إذ يجب أن تأتي في إطار خطة التعافي المالي والاقتصادي، وإلا سنكون أمام سعر صرف جديد للدولار يُضاف إلى قائمة الأسعار المتفلّتة، ولكن بقالب "رسمي شرعي"، يفاقم معاناة الناس، ويزيد من أعبائهم، ويضرب المساعدات التي وضعت على شكل زيادة رواتب لموظفي القطاع العام وأقرها البرلمان حديثاً.

بداية، يتوقف كبير الاقتصاديين في مجموعة بنك بيبلوس نسيب غبريل في حديثه مع "العربي الجديد" عند طريقة الإعلان المفاجئة عن قرار حيوي يطاول الكثير من جوانب الاقتصاد عبر وكالة أنباء بتصريح مقتضب، في وقتٍ يجب تحضير الناس والاقتصاد والقطاع الخاص لمثل هذا الإجراء، إذ كان الأجدى أن يعلن عنه وأسبابه وخلفياته وتداعياته، سواء من قبل رئيس البلاد أو رئيس الوزراء، أو عبر مؤتمر صحافي مشترك بين وزير المال وحاكم مصرف لبنان يوضح تفاصيله ويجيب عن كل التساؤلات.

ويشير إلى أنه علينا أن ننتظر التعاميم التي ستصدر عن مصرف لبنان المرتبطة بسعر الصرف الجديد، وكذلك وزارة المال، لأن الناس تسأل عن تأثيرات ذلك على السحوبات المصرفية والقروض والضرائب والمعاملات الرسمية وميزانيات ورأسمال الشركات والمصارف، وهل مثلاً تعرفة الاتصالات ستبقى على منصة صيرفة التي يفوق سعرها سعر الصرف الجديد أم ستعتمد الأخير لها، وغيرها من الأسئلة التي لا جواب رسميا عليها بعد.

ويتوقع غبريل أن يبدأ مصرف لبنان بإصدار تعاميم جديدة أو تعديل تعاميم قائمة تأخذ بعين الاعتبار التغيير، مثلاً كان مصرف لبنان أصدر عام 2020 تعميماً يسمح فيه للمقترضين الأفراد بالدولار والعملات الأجنبية بتسديد القروض بالليرة على سعر الصرف الرسمي، وهو ما من شأنه أن يتغيّر ويعدَّل، كذلك، يمكن أن يشمل التعديل التعاميم التي تحدد سعر صرف السحوبات الدولارية عند 8 آلاف ليرة، والتي تعتمد سعر صرف 12 ألف ليرة، مشدداً في الوقت نفسه على أنه من الضروري أن التعديلات يجب أن تأخذ بعين الاعتبار وضع المواطنين ولا تضرّ بهم.

لبنان يعيش في ثالث سنة من الانهيار المالي، الذي جعل ثمانية من كل عشرة أشخاص، فقراء، وفق البنك الدولي

إلى جانب ذلك، مفترض أن يشمل السعر الجديد كل ما تحصّله الدولة اللبنانية وفق سعر صرف الدولار، أبرزها العقارية، والضريبة على القيمة المضافة، وفق غبريل، لافتا إلى أن القروض الممنوحة بالليرة طبعاً لن تتغير، أما من نال قرضاً شخصياً بالدولار الأميركي أو سكنياً بالعملة الأجنبية وسمح مصرف لبنان بدفعها على سعر الصرف الرسمي بالليرة، فإن هذا من شأنه أن يعدَّل ويبقى تحديده من قبل البنك المركزي.

لكن رئيس حكومة تصريف الأعمال قال في تصريحاته لرويترز: "لا شيء سيحصل فوراً وفجأة. مثلاً اليوم يقولون القروض المأخوذة بالدولار تسدد على أي سعر؟ عندنا الأشخاص الطبيعيون الذين أخذوا قروضاً لسكنهم أو أشيائهم الشخصية، هذه سيظل سعرها، ستعطى فترة زمنية تبقى تسدد على 1507 ليرات" دون أن يوضح ما هي الفترة الزمنية التي ستظل تطبق خلالها على أساس السعر القديم.

تعويم الليرة أمام الدولار

يقول كبير الاقتصاديين في مجموعة "بيبلوس" إن تغيير سعر الصرف يأتي تطبيقاً للاتفاق المبدئي الذي جرى التوصل إليه بين السلطات اللبنانية وصندوق النقد الدولي في إبريل/نيسان الماضي، في إطار الشروط المسبقة التي على لبنان الالتزام بها للتوقيع على قرض الثلاثة مليارات دولار، حيث إن توحيد سعر الصرف يعدّ من أحد هذه الإجراءات.

ويرى أن "ما حصل هو مجرد خطوة أولية أي أن المسار سيستكمل بإجراءات أخرى، فالهدف هو تعويم سعر الصرف، ما يلغي تالياً سعر الصرف الرسمي، ونصبح أمام عرض وطلب في السوق يحدد سعر صرف الدولار".

ويقول غبريل إن رئيس حكومة تصريف الأعمال سبق أن قال إن سعر الدولار الجمركي الذي تقرر بقيمة 15 ألف ليرة سيطبق لغاية نهاية العام الجاري، ما يعني أنه سيعدّل مطلع السنة المقبلة، ما يطرح سؤالاً حول ما إذا كان ذلك سيترافق أيضاً مع تعديل آخر لسعر الصرف الرسمي أو يتم تحريرها بالكامل مطلع العام 2023. ويشير إلى أن صندوق النقد الدولي يفضّل تعويم سعر الصرف بخطوة واحدة وهو حتماً قرار موجع، بينما السلطة في لبنان قرّرت توحيدها تدريجياً.

من جانبها، تقول ديانا منعم، المديرة التنفيذية لـ"كلنا إرادة"، وهي منظمة غير حكومية تطالب بإصلاحات عامة في لبنان، إن قرار تغيير سعر الصرف الرسمي لم يترافق مع خارطة نهوض اقتصادية يبدأ العمل بها، أو سياسة نقدية جديدة.

وتضيف منعم لـ"العربي الجديد": "كما بات معروفاً فإن توحيد سعر الصرف يعد من الشروط المسبقة لصندوق النقد الدولي لدعم لبنان، وأصلاً هذا أمرٌ بديهي إذ لا يمكن لأي اقتصاد أن يقوم في ظلّ فوضى وتعدد أسعار الصرف في السوق، لكن يجب اعتماد سعر صرف مدروس ضمن رؤية اقتصادية لا أن يتم اختياره بطريقة اعتباطية عشوائية".

وتشير إلى أن توحيد سعر الصرف يجب أن يترافق مع سياسة نقدية قادرة على تهدئة السوق وخطة مالية اقتصادية متكاملة، وإلا فإن هذه الخطوة لن تترجم ميدانياً وتلجم ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازية.

وتتابع "يبقى السؤال الكبير، ما هي انعكاسات هذا القرار، الواضح أن هناك ضبابية كبيرة لا تزال موجودة، وتلبّكاً في التصريحات، حتى في ما خصّ الضرائب والرسوم، وكيف سينعكس على العقود التجارية والإيجارات وغيرها، وانعكاساته على المصارف التي هي أصلاً غير قادرة على ردّ دولارات المودعين، وكيفية احتساب الخسائر التي ستزيد بهذه الحالة".

وتقول: "ننتظر الخطة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي وسط وعود بأن الإطار القانوني لها سيصدر هذا الأسبوع، باعتبار أن هذه الخطوة مرتبطة جداً بإعادة الهيكلة ويفترض التنسيق تبعاً لها، وليس بشكل اعتباطي، مشيرة تبعاً لذلك، إلى أنه يجب تحديد أولاً آليات التطبيق، ومواءمة الموضوع مع إعادة هيكلة القطاع المصرفي والسياسة النقدية".

استمرار السوق السوداء

وترى المديرة التنفيذية لمنظمة "كلنا إرادة" أن اعتماد سعر صرف 15 ألف ليرة لن يلغي السوق السوداء الموازية التي ستبقى، مضيفة أن هذه الخطوة تبقى محاولة لرفع الإيرادات لصالح الخزينة العامة، منها عقود بعض العقارات بالدولار في بعض الأماكن وكذلك التحصيلات بالدولار على الرسوم والضرائب.

ووفق رئيس حكومة تصريف الأعمال "من الآن إلى الأول من نوفمبر/تشرين الثاني ستصدر تعاميم من حاكم مصرف لبنان وقرارات تحدد حيثيات هذا القرار، وتحدد الاستثناءات المطلوبة".

ويعيش لبنان الآن في ثالث سنة من الانهيار المالي، الذي جعل ثمانية من كل عشرة أشخاص، فقراء، وفق البنك الدولي، الذي اتهم في تقرير له مطلع أغسطس/ آب الماضي، السياسيين اللبنانيين بالقسوة والانتهازية، مشيراً إلى أن "إضعاف تقديم الخدمات العامة جاء بشكل مُتعمد لإفادة فئة محدودة على حساب الشعب اللبناني".

وأضاف البنك الدولي أن المواطنين كانوا في نهاية المطاف يدفعون تكاليف مضاعفة، ويحصلون على منتجات أو خدمات ذات جودة متدنية، وكانت الآثار أيضاً تنازلية بدرجة كبيرة، حيث تؤثِّر في الشرائح السكانية ذات الدخل المتوسط والدخل المنخفض بدرجة أكبر كثيراً من غيرهم.

المساهمون