انعكست الأزمة الاقتصادية الحادة في لبنان على مؤسسات الدولة التي دخلت موتاً سريرياً بفعل إضراب موظفي القطاع العام منذ أكثر من شهرٍ، في حين تشهد الخدمات الأساسية تدهوراً غير مسبوقٍ بينما يكافح القطاع الخاص للبقاء على قيدِ حياة مهنية "هشّة" وغير مستقرّة بفعل الضائقة الاقتصادية وهجرة الكفاءات.
وعلى الرغم من نجاح لبنان في إجراء الانتخابات النيابية التي عوَّل اللبنانيون كثيراً عليها لإحداث التغيير وخلقت نتائجها أملاً في نفوس المواطنين سرعان ما تبخّر، إلّا أن الوضع يزداد سوءاً ولا سيما في ظل صراع الحصص الوزارية الذي يحول دون تشكيل الحكومة فيما التوقعات تُنذِر بانفجار اجتماعي قريب وسط مخاوف من فوضى شاملة.
إضرابات في مختلف القطاعات
باتت مرافق الدولة والإدارات الرسمية حتى الأروقة القضائية مشلولة في ظل الإضرابات القائمة التي مسّت القطاع الإعلامي أخيراً في سابقة لبنانية، وتطاول أيضاً النقابات والاتحادات بشكل متقطع فيما تلوّح المؤسسات الخاصة كل فترة بالتصعيد وتحذّر من خطورة الوضع بما فيها المستشفيات، ويقابل ذلك كله إضرابات مصرف لبنان بين الفينة والأخرى لمواجهة الإجراءات القضائية بحقه متذرعاً بطابعها السياسي.
ورفض الموظفون والعاملون في القطاع العام الذين ما زالت أجورهم تحتسب وفق سعر الصرف الرسمي مقرّرات "اللجنة الوزارية المكلفة معالجة تداعيات الازمة المالية على سير المرفق العام" التي اتخذت لدفعهم إلى فك إضرابهم، مشددين على أنها لا تلبي الحدّ الأدنى لمطالبهم، ومؤكدين التمسّك بقرارهم التوقف عن العمل في ظل التجاهل المستمرّ لحقوقهم. ويبلغ السعر الرسمي للدولار 1507 ليرات، أي أن معدل الراتب حوالي المليونين ونصف، أي أقل من 100 دولار وفق سعر الصرف في السوق السوداء الذي يتخطى 29000 ليرة.
ومن مقررات اللجنة الوزارية التي اتخذتها في جلسة ترأسها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الاثنين، دفع المساعدة الاجتماعية المقرّرة سابقاً والتي كانت تبلغ نصف راتب عن شهرَيْ مايو/ أيار ويونيو/ حزيران، واستصدار مرسوم استثنائي يقضي بدفع مساعدة اجتماعية تعادل راتباً كاملاً كل شهر ابتداءً من شهر يوليو/ تموز، والنظر في مضاعفة الرواتب بعد إقرار الموازنة وفي ضوء الواردات التي سيتم تحصيلها، وإعطاء بدل نقل يومي عن الحضور الفعلي يبلغ 95 ألف ليرة (حوالي 3 دولارات وفق سعر الصرف في السوق السوداء)، ودفع فروقات بدلات النقل المتوجبة التي كانت 64 ألف ليرة ولم تكن تُدفَع للموظفين بشكل عام. وربطت اللجنة كلّ ما تقدَّمَ بالحضور لمدة يومَيْن على الأقلِّ تأميناً للواردات ومصالح الناس.
ووقع الرئيس اللبناني ميشال عون أمس الأربعاء مرسوماً يقضي بإعطاء مساعدة اجتماعية مؤقتة لجميع العاملين في القطاع العام مهما كانت مسمياتهم الوظيفية والمتقاعدين الذين يستفيدون من معاش تقاعد وإعطاء وزارة المالية سلفة خزينة من أجل تمكينها سداد هذه المساعدة وذلك بقيمة 3400 مليار ليرة شهرياً.
وقالت الرئاسة اللبنانية في بيان إن المساعدة الاجتماعية قيمتها 100% من الراتب وتحتسب على أساس الراتب أو الأجر أو أساس المعاش التقاعدي على ألا تقلّ قيمة المساعدة عن مليوني ليرة شهرياً لمن في الخدمة ومليون و700 ألف للمتقاعدين وألا تزيد عن 6 ملايين ليرة للذين في الخدمة و5 ملايين و100 ألف ليرة للمتقاعدين.
تعميق الانهيار
ويستغرب وزير العمل في حكومة تصريف الأعمال مصطفى بيرم هذه السلبية التي ظهرت في قرار الموظفين والعاملين في القطاع العام، ويسأل في حديثه مع "العربي الجديد"، "هل يقف أحد وراء هذا الموقف، هناك أمرٌ مشبوهٌ، من يريد أن يعمّق الانهيار ويزيد الخسائر التي تتخطى المليارات يومياً؟".
وفي وقتٍ يدعو بيرم الجميع إلى تحمّل المسؤولية التاريخية في ظلّ الظرف الراهن، يقول: "عليهم أن يقدِّروا أنه لا توجد إمكانات للقيام بما هو أكثر من ذلك في ظل الأوضاع القائمة الصعبة بانتظار إقرار الموازنة، خصوصاً أنّ أي موضوع آخر مرتبط بالواردات يحتاج إلى مشاريع قوانين أو موازنة ودون ذلك نكون أمام طباعة عملة ما من شأنه أن يحدث تضخماً يقضي على الناس والاقتصاد".
ويشدد بيرم على "جدية تعاطي اللجنة الوزارية مع الملف والتي تضمّ نصف الحكومة وكانت مجتمعة لبحثِ أوضاع الموظفين الذين نقف إلى جانبهم ونعي صعوبة الظرف الذي يمرّون به لكن في المقابل طلبنا منهم الحضور يومَيْن فقط في الأسبوع مع راتبين وزيادة بدل نقل، أي سيعملون 8 أيام في الشهر فقط، والباقي يكون عطلة في مشهدية لم نرَ مثلها حتى أيام الحرب الأهلية (1975 – 1990). وتساءل: "هل الأفضل الإبقاء على الإقفال وما سيسببه ذلك من خسائر فادحة تضرب مصالح الناس وتؤثر على رواتبهم؟".
ويلفت وزير العمل إلى أن الخسائر اليومية المباشرة من جراء الإضراب المفتوح تصل إلى 12 مليار ليرة لبنانية، مشيراً إلى أن "المطالب التي تُرفع بمكافحة الهدر والفساد، رغم وقوفنا إلى جانبها ودعمنا لها لكن يجب أن نكون واقعيين فهي تحتاج إلى تشريعات وتغييرات كثيرة فهل نشلّ البلد بالكامل لنصل إليها؟". من جهة ثانية، يشير بيرم إلى أن وضع القطاع الخاص أفضل، خصوصاً أن هناك لجنة مؤشر تواكب وضعه في ظل مرونة بالتعاطي واجتماعات تبقى مفتوحة، مشدداً على أن القطاع الخاص نسبياً أكثر مرونة من القطاع العام.
مافيات الغذاء والوقود والأدوية
على وقع أزمة الرغيف وفي ظل الاتهامات التي تطاول أصحاب المطاحن والمخابز باستغلال الدعم القائم وتهريبه وبيعه في الخارج وحرمان المواطن اللبناني من ربطة الخبز، أعلن رئيس نقابة المخابز العربية في بيروت وجبل لبنان علي إبراهيم استقالته من منصبه. كذلك، تواصل المستشفيات الخاصة تحذيرها من إقفال بعضها أبوابها مع عجزها عن الاستمرار والصمود في ظل الأزمة الاقتصادية والمصرفية والصعوبات المالية التي تعاني منها.
في السياق، يقول الخبير والمستشار اللبناني في التنمية والسياسات الاجتماعية ومكافحة الفقر أديب نعمة لـ"العربي الجديد" إن موظفي القطاع العام كسائر اللبنانيين يعانون من تداعيات سلبية كبيرة نتيجة تدهور القدرة الشرائية وانخفاض قيمة الأجور وعدم قدرتهم على تلبية احتياجاتهم لا بل أكثر من ذلك لم تعد رواتبهم تكفي للوصول إلى مراكز عملهم من جراء كلفة النقل التي باتت تتخطى المبلغ الذي يتقاضونه، معتبراً أن الإضراب حق مقدس للناس وهو شكلٌ من أشكال الضغط ولهم أن يمارسوه.
ويتوقف نعمة "عند سبب إضافي للإضراب، سواء كانوا مدركين له أو في خلفية تفكيرهم أو يَعونَه، يتمثل في اتهامهم بأنهم فاسدون وغير منتجين وغير مؤهلين، وتبعاً لذلك فإن أي خطة إصلاحية مستقبلية ترتبط بالقطاع العام ستطاول الموظفين وتطيحهم، أي ستكون على حسابهم، وبالتالي هم لا يدافعون فقط عن وضعهم وحقوقهم الراهنة بل خطوتهم قد تكون كنوع من الاحتجاج على ما هم مقبلون عليه و"موعودون" به، ما يجعل إضرابهم نتيجة سلوكيات سابقة وحالية ومستقبلية تمارس ضدهم".
ويضيف: "مع العلم أن ذلك لا يبرر أن قسماً من الموظفين تم توظيفهم لأسباب نفعية سياسية وهم فعلاً غير مؤهلين". ويلفت نعمة إلى أن الإدارة اليوم بحال شلل تتفاقم، وذلك نتائجه سلبية جداً على الوضع العام في البلاد وعلامة إضافية من علامات انهيار الدولة وذلك تحضيراً لانهيار مؤسساتي شامل على المستويات كافة.
ويشدد نعمة على أنه يقتضي التمييز بين أمرَيْن مختلفَيْن تماماً: الأول له علاقة بالعمّال والموظفين والمواطنين وأصحاب الأعمال الحرة أو الهامشية وغير المحمية، سواء في القطاع العام أو الخاص، وهم حقوقهم منتهكة ويرفعون مطالبها، وبين مافيا الغذاء والطحين والمخابز والمولدات الخاصة والمحروقات والنقل والأدوية وحتى المستشفيات، وغيرها.
ويقول: "هذه مافيات نهبت البلد عبر آليات معينة كانت موجودة في السابق، منها الدعم والمحسوبيات التي تتم عبر العقود وما شابه، والتي نتيجة الأزمة الاقتصادية النقدية والشحّ الموجود بالأموال والضغط الحاصل من قبل المواطنين والمؤسسات الدولية على رأسها صندوق النقد الدولي تضرّرت مصالحهم فقد اعتادت النهب من دون ضوابط، وفي هذا السياق يأتي إضرابها وتصعيدها للحفاظ على أرباحها وهذا النوع من الإضرابات يجب التنبّه له ويدخل في سياق "الإجرامي".
المواطن هو الضحية
يلفت الخبير والمستشار اللبناني في التنمية والسياسات الاجتماعية ومكافحة الفقر إلى أن تداعيات ذلك كله يطاول حتماً المواطن، خصوصاً أن الدولة تنحاز وتخضع لضغط المافيات وأصحاب المواقع الحساسة، ما يفضي إلى زيادة معاناة الناس، وذلك يحصل عندما تسمح الدولة بتسعير خدمات كالاتصالات والإنترنت بالدولار، وتسمح وزارة السياحة للمؤسسات السياحية بالتسعير بالدولار، ولا تقف بوجه المدارس والجامعات التي تريد أن تسعّر بالدولار، هذا الضغط يخفف عن أصحاب المافيات ويعالج على حساب المواطنين، كذلك الأمر بالنسبة إلى أصحاب المواقع الحساسة الذين أيضاً لديهم وسائل ضغط يمارسونها للحصول على ما يريدونه مثل القضاة الذين ضوعفت رواتبهم في ظل تعاطٍ فاضح مع المشكلات بالقطعة والتمويل حتماً من أموال المواطنين.
يقول الخبير والمستشار اللبناني في التنمية والسياسات الاجتماعية ومكافحة الفقر أديب نعمة لـ"العربي الجديد" إن موظفي القطاع العام كسائر اللبنانيين يعانون من تداعيات سلبية كبيرة نتيجة تدهور القدرة الشرائية وانخفاض قيمة الأجور
تبعاً لذلك كله، يرى نعمة أن الحل الوحيد للتغيير لا يمكن أن يأتي إلا بحركة شعبية سياسية ضاغطة وعبر الشارع، وبالتالي يجب أن يرتقي الإضراب المطلبي إلى إضراب واسع للتصدي للأزمة على أن يأخذ طابعاً سياسياً، خصوصاً أن الكساد متعمّد في لبنان، وهو من تدبير قيادات النخبة في البلاد التي تسيطر منذ وقت طويل على مقاليد الدولة وتستأثر بمنافعها الاقتصادية، وذلك ما أكده تقرير البنك الدولي.
إضرابات بلا فائدة
من جانبه، يقول رئيس قسم التحرير والدراسات في "المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين" أسعد سمور لـ"العربي الجديد" إن الإضرابات في القطاع الخاص لها علاقة بالإنتاجية وحقوق العمال والخسائر من جراء الأزمة، سواء على مستوى المداخيل أو بدلات النقل، لافتاً إلى أن السمة العامة للحركة الاحتجاجية ترتبط أكثر بكلفة النقل وعدم قدرة الموظفين على الوصول إلى مراكز عملهم، وبالتالي هم مرغمون على القيام بحركة احتجاجية ليست مرتبطة بقرار نقابي أو عمالي بالإضراب والتظاهر وتحقيق المكتسبات. ويضيف سمور: "على مستوى القطاع العام، الإضرابات ليست جديدة، إذ إن هيئة التنسيق النقابية افتتحت سلسلة طويلة من الحركات الاحتجاجية والإضرابات رغم أن القانون يحظر على القطاع العام الإضراب أو المشاركة فيه، وطبعاً يحتاج إلى تعديل، وقد امتدت حتى اليوم وطاولت حتى التفتيش المركزي".
ويتابع: "لكن المشكلة الأساسية تكمن في أنه لم يعد هناك دولة أو مؤسسات، فمثلاً إضراب العاملين في شركة الكهرباء لن يؤدي إلى نتيجة لأن أصلاً لا كهرباء والمعاناة موجودة، هناك مؤسسات بلا كهرباء ولا مازوت قبل الإضراب، الدولة وصلت إلى مكان لا تصدر إخراجات قيد لعدم توافر الأوراق، ولا جوازات سفر، بما معناه أن مرافق الدولة معطلة، سواء بإضراب موظفين أو من دونه، حتى إن الإضراب قد يفتح المجال لسوق سوداء بالمعاملات، وهنا نكون انتقلنا بالفساد الإداري إلى مستوى متقدّم جداً".
في المقابل، يلفت سمور إلى أن الوظيفة العامة يُنظَر إليها بعد الحرب باعتبارها غنيمة حرب للزعماء، إذ لم يُحاسَب أحد منهم بل كوفئوا بأخذ مواقع في الدولة والإدارات العامة والوزارات وأصبحوا يوظفون أشخاصاً من بوابة "الزبائنية السياسية"، من هنا يجب التفريق بين دعم الحركة المطلبية وبين أن هناك أخطاء في المسار النضالي المطلبي.
يقول سمور إن "الحركة المطلبية يجب أن تكون متناسقة مع المبادئ العامة للعدالة، وتدفع باتجاه تطوير القطاع العام وفضح الفاسدين لنيل تفاعل الرأي العام ولا تقتصر فقط على المطالبة بزيادة أجور ورواتب، خصوصاً أنه على صعيد القطاع العام من السهل جذب معارضة شعبية ضده مهما كانت ظروف الموظفين والعاملين فيه سيئة". ويشير سمور إلى أن "مقاربة المسائل المطلبية المجتزأة هي نوع من إعدام الحركة المطلبية وتفتح مجال للمراوغة السياسية والمزيد من الفساد والبلطجة والتشبيح واللا قانون ولا تحقق المطالب".