بعد أربع سنوات عصيبة من التوترات التجارية والاقتصادية والجيوسياسية عاشها العالم مع دونالد ترامب، عمّت الفرحة شوارع الولايات المتحدة والعالم، وساد ارتياح كبير في أوساط كبار المستثمرين في أسواق المال التي ارتفعت طوال تعاملات الأربعاء والخميس، بعدما أظهرت نتائج الانتخابات التقدم الواضح للمرشح الديمقراطي جو بايدن.
ومع إعلان فوز بايدن الساحق بـ290 صوتاً مقابل 214 صوتاً لدونالد ترامب، يتوقع خبراء أن يتواصل ارتفاع مؤشرات أسواق المال خلال الأسبوع الجاري.
ولا يبدو حتى الآن أن الأسواق قلقة من احتجاجات ترامب والقضايا القانونية التي ينوي رفعها للتشكيك في نزاهة الانتخابات واتهاماته للحزب الديمقراطي بسرقة النتيجة، وربما مطالبته بإعادة الانتخابات في بعض الولايات.
في هذا الشأن، يقول كريستوفر ستانتون، مدير الاستثمار في شركة "صن رايز كابيتال بارتنرز"، إن "فوز بايدن نبأ عظيم للأسواق.. تعبنا جميعاً من تقلبات السوق المصاحبة لتغريدات ترامب". على الصعيد الدولي، هناك ارتياح كبير إلى أن "عزلة أميركا" قد انتهت، وأن واشنطن ستعود مرة أخرى للعب دورها الفاعل في المحيط الاقتصادي واالتي تترنح تحت ضربات كورونا.
ويرى محللون أن فوز بايدن سيخفف التوتر التجاري مع الصين، وسيدعم دور منظمة التجارة العالمية وفعاليتها في تسيير وتنظيم العلاقات بين الدول.
ولكن ماذا يعني فوز بايدن بالنسبة لأسواق الأسهم والصرف والطاقة والتجارة العالمية والأسواق الناشئة؟
على الصعيد الداخلي، من المتوقع أن يساهم فوز جو بايدن في تسريع التحفيز الاقتصادي الذي تحتاجه الأسواق المالية بقوة في هذه الفترة التي تتراجع فيها القوة الشرائية، بسبب الضائقة المالية التي تعيشها الأسر الأميركية وارتفاع معدلات البطالة.
ويعتمد نمو الاقتصاد الأميركي على القوة الشرائية أكثر من اعتماده على الصادرات. وتقدر القوة الشرائية في الولايات المتحدة بنحو 14 تريليون دولار في العام.
ولا يتوقع محللون أن يقود فوز بايدن إلى إجراء تعديلات كبيرة أو سريعة في نظام الضرائب، على الرغم من الوعود التي قطعها في الانتخابات، وذلك ببساطة لأن إجازة التشريعات الجديدة لن تكون سهلة مثل القرارات الرئاسية.
في هذا الشأن، يقول إيان كاتز، المدير في شركة "ألفا بارتنرز"، ومقرها نيويورك: "كانت هناك مخاوف في سوق وول ستريت من إقرار إدارة بايدن "ضريبة الصفقات المالية"، ولكن هذه المخاوف اختفت".
ويرى كاتز أن إدارة بايدن ربما لن تقر هذه الضريبة على الصفقات في وول ستريت، حتى في حال فوز الحزب الديمقراطي في انتخابات الشيوخ المتبقية في بعض الولايات في يناير/كانون الثاني المقبل. ولدى الحزب الديمقراطي حالياً أغلبية في مجلس النواب، بينما يسيطر الحزب الجمهوري على مجلس الشيوخ، وهما المجلسان المهمان في إجازة أية تشريعات جديدة.
ويرى محللون في صحيفة "وول ستريت" أن إدارة بايدن سترفع الضرائب على المستثمرين والأعمال التجارية، ولكنها في المقابل ستوفر مناخاً من الاستقرار التجاري مع شركاء الولايات المتحدة، مقارنة بالتوترات التجارية وتهديدات الرسوم التي ضربت أعمال الشركات الأميركية في الخارج وأربكت عمليات الاستثمار.
كما أن ترامب عمل على خلق عداوات شخصية مع العديد من الشركات الكبرى. أما بالنسبة للتعامل مع انتشار جائحة كورونا، فقال بايدن إنه "لن يقوم بإغلاق الاقتصاد، وإنما سيعمل على إغلاق انتشار جائحة كورونا"، أي أنه سيحاصر انتشار الجائحة.
وتشير خطة بايدن بشأن الضرائب إلى أنه سيرفع الضرائب على الشركات من مستواها الحالي 21% إلى 28%، وسيزيد الضرائب الدنيا على الدخول التي تجنيها من الخارج من مستواها الحالي 10.5% إلى 21%، كما وعد كذلك بمراجعة الإعفاءات الضريبية التي منحها ترامب للأثرياء.
وبعد أربع سنوات قضاها ترامب في تغريداته عن ارتفاع مؤشرات سوق "وول ستريت"، بدا المستثمرون أكثر سعادة بمغادرته البيت الأبيض.
ورغم أن جذور الرئيس بايدن ليست أرستقراطية، فإنه يحظى بدعم كبير من رجالات المال في "وول ستريت".
يذكر أن ترامب كان يتوهم أن سوق المال تحبه ويقول في تغريداته إنه "إذا لم أفز في الانتخابات الرئاسية بولاية ثانية فإن الأسهم ستنهار"، ولكن ما حدث أن السوق تواصل الارتفاع وتبدو سعيدة بسقوطه في الانتخابات.
على صعيد أسواق الصرف، يتوقع خبراء أن تستفيد عملات الأسواق الناشئة من خسارة ترامب بسبب التراجع المتوقع في سعر صرف الدولار.
وحسب التقارير الصادرة من مصرفين عالميين كبيرين هما كريدي أغريكول الفرنسي و"يو بي أس" السويسري، فإن الدولار سيشهد المزيد من الخسائر في حال فوز بايدن.
وقال خبير أسواق الصرف في مصرف أغريكول، فالنتين مارينوف، إن "الدولار استفاد من السياسة الحمائية للرئيس دونالد ترامب، وهذه السياسة ستنتهي في عهد بايدن".
على صعيد سعر الفائدة الأميركية، تتجه معظم التوقعات إلى أن مصرف الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) سيحافظ على سعر الفائدة المنخفض الحالي الذي يتراوح بين صفر و0.25 في المائة خلال إدارة بايدن وربما لسنتين على الأقل، حسب التصريحات التي أدلى بها رئيس البنك المركزي الأميركي، جيروم باول.
وبالتالي، فإن معدل الفائدة ربما لن يكون ذا تأثير يذكر على سعر الدولار خلال العام المقبل. ولكن خسارة الدولار ربما لن تكون كبيرة بسبب جاذبية الأصول الأميركية.
في هذا الشأن، يقول تحليل لشركة "آر بي سي كابيتال ماركتس" البريطانية، إن "الطلب على الأصول الأميركية سيدعم سعر صرف الدولار في العام المقبل".
على صعيد تداعيات سياسة الطاقة للمرشح بايدن، يتوقع خبراء أن تكون صناعة النفط الصخري الأميركي وأسعار النفط العالمية من بين ضحايا فوز بايدن، إذ طرح الرئيس الديمقراطي خطة للطاقة المتجددة بديلاً للطاقة التقليدية المعتمدة على النفط ومشتقاته، كما يخطط لتقييد إجراءات الكشوفات النفطية في الولايات المتحدة وحظر التنقيب في المحميات الطبيعية.
وحسب تحليل لوكالة "ستاندرد آند بورز" الأميركية للتصنيف الائتماني، فإن الرئيس بايدن ربما سيتمكن من إعادة أميركا إلى اتفاقية باريس للمناخ ربما في اليوم الأول من دخوله البيت الأبيض، ولكنه سيجد صعوبة في إجازة تشريعات جديدة تغير سياسات الطاقة الحالية، خاصة إذا لم يتمكن الحزب الديمقراطي من الحصول على أغلبية في مجلس الشيوخ.
وحسب "ستاندرد آند بورز"، فإن بايدن ينوي استثمار تريليوني دولار في الطاقة المتجددة. وتدعو الخطة إلى استثمار 400 مليار دولار في السيارات الكهربائية، وإنشاء 500 محطة شحن كهربائي في الولايات والمدن الأميركية، كما سيمنح خصما على الضرائب لمشتري السيارات الكهربائية ومستخدمي الطاقة المتجددة.
من جانبها، تتوقع وكالة موديز أن خطة بايدن للطاقة المتجددة ستسرع من نهاية صناعة الفحم الحجري. على صعيد إيجابيات خطة بايدن للطاقة المتجددة، يرى مات بريديرت، الخبير الاستثماري في شركة "إيكو فن في لندن" أن خطة بايدن للطاقة النظيفة ستغير سلوكيات المستهلك الأميركي من دون أن تضيف كلفة مالية جديدة لميزانيته المعيشية.
وقال بريديرت إن "المستهلك الأميركي لن يدفع مقابل تنفيذ خطة بايدن للطاقة الخضراء، وذلك ببساطة لأن كلفة الطاقة الخضراء وأسعار السيارات الكهربائية تواصل الانخفاض".
حتى الآن، تبدو أسواق المال مرتاحة لسقوط ترامب وغير منزعجة من احتمالات فرض ضرائب إضافية عليها. كما أن ترجيح حدوث مرونة في علاقات التجارة بين واشنطن وبكين يسمح للبنوك الأميركية وشركات التقنية بتحقيق المزيد من الأرباح في آسيا.