اكتوت جيوب أبناء الطبقات المتوسِّطة والمعرّضة للفقر والفقيرة في الولايات المتحدة بنار الغلاء خلال العام الماضي، وبالرغم من ارتفاع متوسِّط الأجور إلى حدٍّ ما، إلا أنّ ذلك لم يكن كافياً لمواكبة ارتفاع الأسعار والتضخّم الجامح الذي بلغ ذروته خلال 40 عاماً عند 9.1 بالمائة في يونيو/ حزيران الماضي، مدفوعاً بارتفاع أسعار البنزين والمواد الغذائية والإسكان، فقد تضرَّر الأميركيون من المنتمين إلى الطبقة الوسطى بشدّة من الموجة التضخُّمية لعام 2022 ولم يعد بإمكانهم متابعة نمط حياتهم على نفس المستوى المعيشي الذي اعتادوا عليه.
اضطرَّت الأسر الأميركية ذات الدخل المتوسِّط إلى التوقُّف عن الادِّخار ولجأت لاستخدام المدَّخرات السابقة في مواجهة أعباء المعيشة المتزايدة، وأكَّدت نتائج استطلاعٍ شمل الأسر التي يتراوح دخلها بين 30 ألف دولار و100 ألف دولار سنوياً أجرته شركة الخدمات المالية للأسر Primerica اضطرار 82 بالمائة من الأسر ذات الدخل المتوسِّط إلى تقليل الادِّخار بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2022.
كما أفاد 39 بالمائة من المستجوبين ذوي الدخل المتوسِّط بأنّهم سيخفِّضون إنفاقهم بشكل كبير وسيكبحون الإنفاق غير الضروري استعداداً لعام 2023 الذي قد يكون أصعب من الذي سبقه، بينما أكَّد 47 بالمائة من المشاركين في هذا الاستطلاع عزمهم على تأجيل عملية صيانة السيارات والمنازل كخطوة استباقية لمواجهة الرياح الاقتصادية المعاكسة التي تهدِّد استقرارهم المالي.
تختلف معايير تحديد حجم الطبقة المتوسِّطة من منظمة إلى أخرى.
من جهته، يشير مركز بيو للأبحاث Pew Research Center إلى أنّ الطبقة المتوسِّطة تشمل كل من يتراوح دخله بين ثلثي وضعف متوسِّط دخل الأسرة الأميركية والذي حدَّده مكتب الاحصاء في الولايات المتَّحدة The United States Census Bureau بـ 70784 دولاراً في عام 2021.
وهذا يعني أنّ الأسر الأميركية التي يتراوح دخلها السنوي بين 47189 دولاراً و141568 دولاراً تنتمي إلى الطبقة المتوسِّطة.
والخطير في الأمر أنّ بيانات مركز بيو للأبحاث لعام 2021 تشير إلى أنّ 50 بالمائة من السكان ينتمون إلى هذه الطبقة مقارنة بـ 61 بالمائة في عام 1971، بينما يستمرّ أغنى 1 بالمائة من الأميركيين في مراكمة الثروات، الأمر الذي يؤكِّد انكماش الطبقة المتوسِّطة التي تساهم في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
ووفقاً لتقرير بعنوان "تغطية النفقات" "Make Ends Meet" أصدره مكتب الحماية المالية للمستهلك Consumer Financial Protection Bureau في ديسمبر/ كانون الأوّل 2022، واجهت العديد من الأسر الأميركية صعوبات جمّة في دفع الفواتير في عام 2022 مقارنة بعام 2021، وشدَّد التقرير على أنّ 37 بالمائة من المستهلكين السود واللاتينيين ذوي الدخل المنخفض لن يتمكَّنوا من تغطية نفقاتهم لأكثر من شهر في حال حدوث أزمة اقتصادية تفقدهم مصدر دخلهم الرئيسي.
من بين الإجراءات الاحترازية والتدابير التحوطية التي قرَّر المستجوبون في استطلاع مركز بيو للأبحاث اتِّخاذها لمواجهة التضخُّم الذي لا يبدو أنّه عابر نجد: العمل لفترة أطول قبل التقاعد (42 بالمائة من المستجوبين)، تقليص أو إيقاف الادِّخار في صندوق الطوارئ (30 بالمائة)، البحث عن وظيفة ذات راتب أعلى (22 بالمائة)، تقليل حجم الادِّخار المخصَّص للتقاعد أو وقفه كلياً (14 بالمائة)، خفض أو إيقاف سداد مدفوعات قروض الطلاب (13 بالمائة)، وخفض أو إيقاف سداد مدفوعات بطاقات الائتمان (9 بالمائة).
أما بالنسبة لنتائج الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة غالوب Gallup، والذي تتبَّع تقييمات الأميركيين لاحتمالية تجاوز الجيل القادم لمستويات عيش آبائهم، فقد كانت قاتمة وإن دلَّت على شيء فإنّها تدلّ على وصول الأمل في الحلم الأميركي إلى أدنى مستوياته على الإطلاق خاصّة بين أبناء الطبقة الوسطى الذين تملَّكهم اليأس والقنوط، حيث أفاد 59 بالمائة من الأميركيين ذوي الدخل المتوسِّط وتحديداً الذين يتراوح دخلهم بين 40 ألف دولار و100 ألف دولار بأنّه من غير المحتمل أن يتمتَّع شباب اليوم بحياة أفضل من آبائهم.
أمام معدل التضخُّم الذي عجزت أدوات السياسة النقدية، كرفع أسعار الفائدة، عن كبح جماحه، لم يتبقَّ أمام المستهلكين الأميركيين سوى خيار شدّ أحزمة التقشُّف والانضباط مالياً والسيطرة على إنفاقهم لتجنُّب ويلات الركود الذي قد يتركهم في مهبّ الفقر ومصبّ العجز، وانتشرت نتيجة لذلك العديد من الفيديوهات على اليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي لحثّ المواطنين على ترشيد إنفاقهم وضغط مصاريفهم وتجنُّب كل أنواع الاختراقات المالية التي تبدو ظاهرياً بسيطة إلاّ أنّها ذات تأثيرات عميقة تصل إلى حدّ إعلان الإفلاس في النصف الأوّل من الشهر كالتسوُّق عبر الإنترنت، عدم التنازل عن استخدام الماركات ذات الأثمان الباهظة، عدم الاكتفاء بالضروريات الأسبوعية، الاستعجال في الشراء دون استخدام التقنيات الحديثة للبحث عن والعثور على أفضل الأسعار المتوفِّرة، وعدم إيلاء أيّة أهمية لاستخدام بطاقات الاسترداد النقدي التي تمكِّن المستهلكين من استرداد جزء ولو بسيطا من نقودهم أثناء التسوُّق كبطاقة Citi Double Cash Card التي تعتبر الفضلى في هذا المجال.
انكماش الطبقة المتوسِّطة لصالح اتِّساع الطبقة الفقيرة بات واضحاً في أميركا، أمّا عن الوضع في أغلب الدول العربية، فحدث ولا حرج، فقد بزغ مصطلح الطبقة "المتشبِّثة" بنمط حياة الطبقة الوسطى المرتاحة تجنُّباً للانزلاق الذهني والاجتماعي نحو طبقة واسعة يائسة تتدافع لكسب لقمة العيش من أجل البقاء حيث الفقر سيِّد الموقف بما يستتبعه ذلك من ضغوط نفسيّة وصراعات، وهذا المصطلح الرائج بكثافة حالياً ما هو إلاّ مرآة لمدى صعوبة ترميم الشرخ الطبقي الذي يتَّسع يوماً بعد يوم جرّاء الصدمات التضخُّمية المستمرّة.
خلاصة القول، من المستبعد أن ينخفض التضخُّم في أميركا إلى نسبة 2 بالمائة المستهدفة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في المدى القريب، لكن من غير المتوقَّع أن يتوقَّف تآكل الطبقة المتوسِّطة هناك، بينما الهمّ همّان في العالم العربي، همّ التضخُّم المستورد، وهمّ الحكومات التي لا تبالي بوقف التدهور المطرد.