رغم الآمال الكبرى التي انتعشت، خلال الشهر الجاري، في القضاء على جائحة كورونا وعودة الحياة إلى طبيعتها ربما بنهاية العام المقبل، بعد الإعلان عن لقاحات ناجعة (فايزر وبيونتيك وموديرنا وأسترازينيكا)، إلا أن المخاوف من الإفرازات السلبية للجائحة لم تنتهِ. وحسب محللين، فإن هنالك مخاوف من أن تضع الموجة الجديدة من الجائحة وعمليات الإغلاق الكامل أو الجزئي للاقتصاد والأسواق والمحال التجارية والعزل الاجتماعي، العالم الغربي، أمام تحديات رئيسية تتعدى الخسائر الاقتصادية والنقدية والاجتماعية، لتصل ضرباتها الموجعة إلى النظام السياسي والاجتماعي الرأسمالي .
على الصعيد النقدي، هزت الجائحة، حتى الآن، الثقة في النقود كأداة لحفظ القيمة، إذ أدى ارتفاع عمليات التحفيز النقدي المكثف من الدولارات واليوروهات في أنحاء العالم إلى صعود العملات البديلة، وعلى رأسها العملات الرقمية، إذ عادت عملة بتكوين، الأشهر بين تلك العملات، للارتفاع متجهة نحو 20 ألف دولار، بعد أن قفزت يوم الاثنين إلى نحو 18.752 دولارا، حسب بيانات موقع "بيتكوين.كوم". كما أثير مجدداً الحديث عن نظام نقدي جديد بديل لنظام "بريتون وودز" الذي أسس في عام 1945 ويهيمن عليه الدولار.
في هذا الشأن، قال الرئيس التنفيذي لشركة "بيت غو" الأميركية، مايك بليش، إن الاضطراب الاقتصادي الذي نشأ عن الجائحة أدى إلى زيادة الاهتمام العالمي بالأصول والعملات الرقمية. وأضاف، غو، في تعليقات لموقع "كوين تيلغراف"، أن الجائحة رفعت عدد المستثمرين في العملات الرقمية، وأن كبار المستثمرين من صناديق الاستثمار والمؤسسات المالية باتوا يستثمرون في العملات الرقمية.
على الصعيد الاقتصادي، تتزايد الكلف الاقتصادية لموجة جائحة كورونا الجديدة، إذ أن عمليات الإغلاق الاقتصادي ستقود تدريجيا إلى ارتفاع البطالة وإفلاس العمال التجارية ورفع الحاجة للدعم الحكومي، أي زيادة الإنفاق من الميزانيات الحكومية، في وقت يتراجع فيه دخلها من ضرائب الدخل والرسوم التي تجنيها من الشركات والفنادق والمطاعم، وبالتالي اضطرت الحكومات للتمويل عبر الاستدانة. وحسب بيانات معهد التمويل الدولي في الأسبوع الماضي، رفعت الجائحة الدين السيادي العالمي بنحو 20 تريليون دولار خلال العام الجاري. وهناك مزيد من عمليات الاستدانة تحتاجها الحكومات لتلبية الاحتياجات الصحية ودعم المواطنين. على الصعيد المعيشي والاجتماعي، عادت الصفوف الطويلة أمام محلات السوبرماركت في أوروبا وأميركا، وسط الذعر من نفاد المواد التموينية، وتكرار ما حدث في الموجة الأولى من تفشي كورونا في الربع الثاني من العام، حينما نفدت العديد من المواد التموينية ورفع أصحاب المتاجر الأسعار.
مخاطر الإغلاق
وسط هذه التداعيات الخطيرة، حذّر خبراء ومسؤولون من مخاطر عمليات الإغلاق والعزل الاجتماعي التي تنفذها الحكومات في الدول الأوروبية والعديد من دول العالم في الوقت الراهن، على البنى الاجتماعية والسياسية والحريات التي يعتمد عليها بقاء الديمقراطيات الغربية والنظم الرأسمالية في العالم. ووفق هؤلاء، فإن جائحة كورونا منحت الحكومات سلطات واسعة للنيل من الحريات الفردية على حساب المؤسسات المنتخبة، إذ أن السلطات الأمنية باتت تتصرف في تقييد الحركة والحريات من دون الرجوع إلى البرلمانات بذريعة حماية المواطنين من العدوى. ويشير خبير في موقع "الديمقراطية المفتوحة" في لندن، وهي مؤسسة تهتم بالحريات الفردية، إلى أن الجائحة قللت من دور البرلمان والسلطات المحلية المنتخبة في المجالس البلدية، ومنحت سلطات أكبر للأمن والشرطة. واعتبر أن الجائحة عملت على تهميش المؤسسات الديمقراطية والحريات.
وعلى صعيد تماسك النسيج الاجتماعي، رفعت الجائحة من معدلات البطالة، وزاد تبعاً لذلك عدم المساواة في الدخول والفجوة بين الطبقات الغنية والطبقات الفقيرة، إذ أن العديد من أفراد الطبقة الوسطى في الدول الرأسمالية فقدوا وظائفهم وانضموا إلى طابور الفقراء الذين ينتظرون المعونات الحكومية وهدايا الجمعيات الخيرية. في هذا الصدد، حذرت رئيسة الوزراء الفنلندية، سانا مارين، من أن إجراءات الإغلاق والعزل الاجتماعي ربما ستقود تدريجياً إلى صعود جديد لموجة التيارات الشعبوية في أوروبا، بعد أن خمدت خلال العام الماضي. وتوقعت مارين، في تعليقات نقلتها صحيفة "فاينانشيال تايمز"، يوم الخميس الماضي، أن تقود إجراءات العزل الاجتماعي القاسية إلى اضطرابات واحتجاجات شعبية واسعة في أوروبا، وربما توفر أرضية جيدة لاستغلالها من قبل التيارات الشعبوية، كما استغلت من قبل موضوع الهجرة في أوروبا. وتمكنت الأحزاب الشعبوية خلال الأعوام الأخيرة من الصعود إلى الحكم في إيطاليا وزادت من رصيدها السياسي في العديد من دول الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا. وقالت مارين في تحذيرها، "زادت الموجة الثانية من فيروس كورونا من الضغوط على المؤسسات الصحية والاقتصاد في أوروبا، وربما لن تستطيع أوروبا تحمّل الركود الاقتصادي لفترة طويلة، إذ أنه يرفع من معدلات الإفلاس في الأعمال التجارية والشركات ويزيد تبعاً لذلك من معدل البطالة".
الأثرياء يستفيدون
ومعروف أن الأزمات الاقتصادية الكبرى، شكلت تاريخياً بيئة خصبة لنشوء التيارات الشعبوية المتطرفة في العالم. وعادة ما يستفيد الأثرياء من عمليات التحفيز النقدي والفائدة السالبة في أوروبا، عبر استثمار هذه الأموال شبه المجانية التي يحصلون عليها من البنوك المركزية في أسواق المال، بينما يخسر أفراد الطبقة الوسطى وكبار السن القيمة الحقيقية لادخاراتهم في المصارف التجارية. وهذا العامل ترجم في الزيادة الضخمة التي شهدتها ثروات المليارديرات في العالم خلال موجة كورونا الأولى. وحسب بيانات "فوربس" الأميركية وقوائم وكالة بلومبيرغ، فإن ثروات بعض كبار الأغنياء في العالم قفزت بنحو مئات المليارات في شهور بسيطة، مستفيدة من الأموال المجانية وارتفاع أسواق الأسهم.
ومنذ الشهر الماضي، تتنامى الاحتجاجات الشعبية في أوروبا ضد العزل الاجتماعي، إذ عمت الاحتجاجات شوارع المدن الكبرى في البرتغال وإسبانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا.
وتسعى بعض الدول الأوروبية إلى تفادي هذه الاحتجاجات، عبر البحث عن بديل لتلافي مخاطر اتساع نطاق انتشار الفيروس عبر إجراء اختبارات العدوى بالفيروس على كامل السكان، مثلما حدث في بعض الدول الآسيوية. ووفق محللين، فإن مثل هذه الاختبارات ربما تخفف بشكل جزئي إجراءات العزل الشاملة التي يتذمر منها المواطنون في الوقت الراهن.
وعلى الرغم من أن خسارة الرئيس دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية في أميركا، ربما تشكل ضربة للتيارات الشعبوية والحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا، إلا أن هنالك مخاوف جدية من أن تداعيات الموجة الثانية من كورونا ربما لا تقتصر إفرازاتها على الكلف المالية والاقتصادية للاقتصادات المتقدمة، خاصة في دول الاتحاد الأوروبي التي يجمع بينها اتحاد هش وتتناهشها القوميات.
وحتى الآن، بلغ عدد الإصابات في العالم 55 مليون إصابة، وتقف الحكومات حائرة حول كيفية التعامل مع التداعيات لجائحة كورونا التي ربما تتجاوز كلف المال والكساد الاقتصادي إلى كلف باهظة على صعيد تماسك النسيج الاجتماعي وإضعاف النظام السياسي الرأسمالي والحريات في أوروبا أو حتى ربما حدوث انقسام خطير، مثلما يحدث الآن في الولايات المتحدة.