تتزايد مؤشرات اندلاع أزمة ديون مصرفية في الولايات المتحدة بفعل قروض العقارات التجارية المتعثرة التي باتت تهدد أخيراً العديد من البنوك الكبرى بعدما كانت مخاطرها في السابق تنحصر في الكيانات المصرفية الصغيرة.
بعد مرور ما يقرب من عام على السيطرة على إرهاصات أزمة مصرفية بسبب انهيار عدة بنوك إقليمية أميركية، والاستحواذ الطارئ على بنك كريدي سويس في أوروبا، تتجدد المخاوف من نشوب أزمة جديدة بفعل الديون المعدومة المستحقة على العقارات التجارية في الولايات المتحدة، والتي لا تتمكن البنوك من تحصيلها.
وأظهرت بيانات حديثة صادرة عن جمعية المصرفيين للرهن العقاري أن نحو 1.2 تريليون دولار من ديون العقارات التجارية في الولايات المتحدة ستستحق خلال العامين المقبلين، مشيرة وفق ما نقلت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية أخيراً، إلى أن هناك 117 مليار دولار من هذه الديون تحتاج إما إلى السداد أو إعادة التمويل خلال العام الجاري فقط.
ويأتي استحقاق سداد هذه الديون بينما يعاني الكثير من المدينين من انخفاض قيمة العديد من المباني بسبب الضربة التي تسببت بها جائحة فيروس كورونا منذ نحو أربعة أعوام والتي تركت أجزاءً كبيرة من المساحات المكتبية شاغرة أو غير مستغلة حتى الآن، وكذلك الأعباء الإضافية التي تسببت بها سياسة رفع أسعار الفائدة من قبل البنك الفيدرالي الأميركي.
وواجهت نحو 12 شركة عقارات تجارية أميركية حالات تعثر عن سداد الديون في ديسمبر/ كانون الأول 2023، فضلاً عن ثماني شركات في الاتحاد الأوروبي في الشهر ذاته، وهو أعلى رقم للشركات المتعثرة منذ الأزمة المالية عام 2008، إذ باتت الأزمة لا تنحصر في حدود الولايات المتحدة وإنما تتسرب إلى بقاع أخرى من العالم، لا سيما أوروبا، بينما تنشغل الصين بأزمتها العقارية الخانقة التي باتت أيضا تهدد القطاع المالي في ثاني أكبر اقتصاد بالعالم.
وتجاوزت القروض العقارية التجارية المعدومة مخصصات العديد من البنوك الأميركية الكبرى لمواجهة الديون المتعثرة، وهو ما تسبب في انخفاض هذه المخصصات الاحتياطية.
وهبط متوسط الاحتياطيات في بنوك "جيه بي مورغان تشيس" و"بنك أوف أميركا" و"ويلز فارغو" و"سيتي غروب" و"غولدمان ساكس" و"مورغان ستانلي" من 1.6 دولار إلى 90 سنتاً لكل دولار من الديون العقارية التجارية التي يتأخر المقترض فيها لمدة 30 يوماً على الأقل، وفقاً للمؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع.
وحدث هذا التدهور بعدما تضاعفت ديون العقارات التجارية المتأخرة للبنوك الستة الكبرى ثلاث مرات تقريباً خلال العام الماضي لتصل إلى 9.3 مليارات دولار، وفق تقرير لصحيفة فايننشال تايمز.
وحذرت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين من مخاطر العقارات التجارية على البنوك. ورغم تقليلها من تداعيات الأمر على البنوك الكبرى خلال شهادتها السنوية أمام اللجنة المصرفية في مجلس الشيوخ الأميركي في الثامن من فبراير/ شباط الجاري، إلا أنها أشارت إلى أن الأمر ليس كذلك بالنسبة للبنوك الصغيرة.
وقالت إنه قد تكون هناك بنوك أصغر تعاني من ضغوط تتعلق بارتفاع معدلات تخلي الشركات عن مباني المكاتب، وارتفاع أسعار الفائدة للاحتياطي الفيدرالي الأميركي وانخفاض التقييمات. وتشكل قروض العقارات التجارية 28.7% من الأصول لدى البنوك الصغيرة، بالمقارنة مع 6.5% فقط في البنوك الكبرى، بحسب تقرير صدر عن بنك "جيه بي مورغان تشيس" في إبريل/ نيسان الماضي.
ويؤدي هذا التعرض لمخاطر العقارات التجارية إلى تدقيق إضافي من قبل الجهات التنظيمية، وهي بالفعل في حالة تأهب قصوى بعد اضطرابات البنوك الإقليمية في العام الماضي.
وبعد تصريحات وزير الخزانة أمام مجلس الشيوخ بنحو أسبوع، خرج مايكل بار، الذي يشرف على البنوك في بنك الاحتياطي الفيدرالي، ليعلن، يوم الجمعة الماضي، أن الهيئات التنظيمية ركزت بشكل وثيق على إقراض البنوك للعقارات التجارية، بما في ذلك كيفية الإبلاغ عن مخاطرها داخلياً وما إذا كانت توفر المخصصات بشكل مناسب ولديها رأس مال كافٍ للحماية من خسائر مستقبلية محتملة.
وزادت قيمة القروض المتأخرة المرتبطة بالمكاتب ومراكز التسوق وغيرها من العقارات التجارية بأكثر من الضعف في العام الماضي لتصل إلى 24.3 مليار دولار، ارتفاعاُ من 11.2 مليار دولار في العام السابق 2022. وتحتفظ البنوك الأميركية الآن باحتياطيات بقيمة 1.4 دولار لكل دولار من القروض العقارية التجارية المتأخرة، بانخفاض عن 2.2 دولار قبل عام، وفقًا لبيانات مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية.
وفي وقت سابق من فبراير/ شباط الجاري، خسر بنك "نيويورك كوميونيتي" أكثر من 50% من قيمته السوقية بعد الإبلاغ عن خسائر محتملة بمئات الملايين من الدولارات لم يتم الكشف عنها سابقاً في دفتر قروضه العقارية التجارية.
وقد تخسر البنوك ما يصل إلى 60 مليار دولار بسبب القروض العقارية التجارية المتعثرة في السنوات الخمس المقبلة، أي حوالي ضعف المبلغ البالغ 31 مليار دولار الذي احتفظت به لخسائر القروض تلك، وفق تقرير لـ"BankRegData"، الذي يجمع ويحلل بيانات المقرضين.
وقال جواو جرانجا، أستاذ المحاسبة في كلية بوث لإدارة الأعمال بجامعة شيكاغو، وفق فايننشال تايمز: "في مرحلة ما، إذا استمرت معدلات الشواغر المرتفعة، فلن يتمكن أصحاب العقارات من خدمة ديونهم، وستقوم البنوك بحبس الرهن".
وفي الوقت الراهن، يُنتظر أن تسفر الحاجة إلى مواجهة الاستحقاق الوشيك لسداد الديون عن مزيد من الصفقات التي ستبين إلى أي مدى يمكن أن تنخفض قيم الأصول، وقد تكون هذه التراجعات حادة، وفق محللين، إذ جرى بيع مركز "أون سنتر"، ثالث أطول الأبراج الإدارية في لوس أنجليس أخيراً مقابل 147.8 مليون دولار، أي أقل بحوالي 45% من سعر شرائه السابق في عام 2014، وفق تقرير لوكالة بلومبيرغ الأميركية.
وكانت العديد من البنوك قد اتخذت في العام الماضي خطوات استباقية لتفادي أزمة ديون العقارات التجارية، عبر بيع بعض هذه الديون بحسم حتى لو كان المقترضون ملتزمين بآخر أقساط السداد.
وفي أعقاب أزمة انهيار عدة مصارف إقليمية في مارس/ آذار من العام الماضي، حذر الملياردير الأميركي إيلون ماسك من أن العقارات التجارية هي أخطر قضية تلوح في الأفق إلى حد بعيد، وحذر من أن البنوك الإقليمية قد تواجه موجة من التخلف عن السداد بسبب تعرضها الضخم للقطاع.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حذر صندوق النقد الدولي في تقرير الاستقرار المالي العالمي من وجود احتمال حدوث هبوط كبير في أسعار العقارات التجارية حول العالم، ما قد يؤدي إلى تشدد شروط التمويل وانخفاض أكبر للأسعار وتعرض البنوك لخسائر مالية.
ورغم أن البعض يرى أن المخاوف بشأن احتمالات انهيار البنوك الإقليمية في الولايات المتحدة لا تزال أضعف مقارنة بما حدث خلال الزمة المالية في 2008، إلا أن مؤشرات التعثر عن السداد في قطاعات أخرى خارج نطاق العقارات التجارية تتزايد من ينذر بانفجار غير محسوب، وذلك على عكس ما يحاول المنظمون ومسؤولو القطاع المصرفي إرساله إلى الأسواق.
فقد تجاوزت حالات تأخر سداد استحقاقات بطاقات الائتمان وقروض السيارات مستويات ما قبل جائحة كورونا، لتسجل أعلى مستوياتها في أكثر من عقد من الزمن. وخلال الربع الأخير من العام الماضي، وصلت ديون الأسر الأميركية إلى مستوى قياسي جديد، بلغ 17.5 تريليون دولار، بزيادة 1.2% عن الأشهر الثلاثة السابقة، وفقًا لأحدث تقرير ربع سنوي صادر عن بنك الاحتياط الفيدرالي في نيويورك في وقت سابق من فبراير/ شباط الجاري حول ديون الأسر والائتمان.
وعندما بدأ البنك الفيدرالي دورة التشديد النقدي من خلال رفع أسعار الفائدة اعتباراً من مارس/ آذار 2022 لمواجهة التضخم المرتفع تصاعدت تكاليف الاقتراض وأعباء الديون إلى أعلى مستوى في أكثر من عقدين.