فوضى الاستشفاء والدواء في لبنان

13 اغسطس 2021
ارتفاع جنوني بأسعار المستلزمات الطبيّة في بيروت (getty)
+ الخط -

لا يوجد ما يعبّر عن حالة القطاع الصحّي في لبنان، وقطاع الأدوية والمستلزمات الطبيّة، أكثر من توصيف الفوضى الشاملة والعارمة. هذه الفوضى تبدأ اليوم من انقطاع الدواء في الصيدليات، وارتفاع أسعار المستلزمات الطبيّة الجنوني، وانفلات هذه المواد في السوق السوداء بلا ضوابط، وصولاً إلى حد توقّف خدمات التأمين الصحّي والجهات الضامنة أو انحسار تغطيتها إلى أدنى حدود.

في كل هذه الأحداث، تختلط تداعيات الانهيار المالي مع آثار الإهمال الرسمي وتقاذف المسؤوليات بين جميع الأطراف، لتصبح النتيجة تحويل الدواء والخدمات الصحيّة إلى نوع من الكماليّات المكلفة وغير المتاحة لمعظم اللبنانيين.
أزمة الشركات المستوردة للأدوية بدأت مع تقنين المصرف المركزي للدولارات التي يوافق على بيعها بسعر الصرف الرسمي القديم للمستوردين، بسبب شح احتياطات العملة الصعبة القابلة للاستخدام، ما جعل الشركات عاجزة عن الاستمرار بتلبية طلبات السوق.

وبما أن بيع الأدوية في الصيدليات محكوم بجداول الأسعار التي تحددها وزارة الصحّة، وفقاً لكلفة الاستيراد بحسب سعر الصرف الرسمي القديم، لم يكن بإمكان الشركات المستوردة شراء الدولار من السوق الموازية لاستيراد هذه السلع وبيعها في السوق. علماً أن سعر صرف السوق الموازية يتجاوز اليوم ال13 مرّة سعر الصرف الرسمي.

إحالة الطلب على معظم أصناف الأدوية إلى سوق سوداء فوضويّة، تختلط فيها الأدوية التي تم استيرادها بالسعر المدعوم قبل أن يتم احتكارها لاحقاً، بالأدوية التي تم تهريبها بشكل غير نظامي

أما النتيجة، فكانت إحالة الطلب على معظم أصناف الأدوية إلى سوق سوداء فوضويّة، تختلط فيها الأدوية التي تم استيرادها بالسعر المدعوم قبل أن يتم احتكارها لاحقاً، بالأدوية التي تم تهريبها أساساً بشكل غير نظامي. علماً أن الأسعار الباهظة الرائجة في هذه السوق تجعلها خارج متناول غالبيّة المقيمين في لبنان.
وهنا كان تقاذف المسؤوليات سيّد الموقف، بين كل من وزارة الصحة والمصرف المركزي والشركات المستوردة، فيما بدا واضحاً أن الحكومة اللبنانيّة لم تعمل منذ الأساس على خطة منسجمة بالتنسيق مع جميع الأطراف، لاستباق لحظة شح الاحتياطات وانحسار قدرة المصرف المركزي على تأمين الدعم لاستيراد السلع الأساسيّة.
الفوضى التي تحكم المشهد تجلّت لاحقاً في الخطة التي قدمتها وزارة الصحة لترشيد الدعم، والتي رفعت سعر الصرف المعمول به لتسعير نحو 1500 صنف من أصناف الدواء من 1507.5 ليرات للدولار الواحد، إلى 12 ألف ليرة للدولار.

ورغم أن هذه الخطة رفعت أسعار الدواء بنحو 8 مرّات بشكل مفاجئ، لم تقدّم هذه الخطوة أي حل لأزمة انقطاع الدواء.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

فمصرف لبنان استمرّ بتقنين الدولارات التي يقدمها للمستوردون. وسعر الدولار في السوق الموازية يتجاوز اليوم حدود 20.3 ألف ليرة للدولار الواحد، وهو ما لا يسمح للمستوردين بشراء دولارات السوق الموازية لاستيراد الأدوية وبيعها محلياً وفقاً لسعر صرف 12 ألف ليرة للدولار كما تنص الخطة الجديدة.
في مكان آخر، قرر المصرف المركزي رفع الدعم عن استيراد المستلزمات الطبيّة التي تستخدمها المستشفيات والمختبرات الطبيّة، ما عنى وقف إمداد المستوردين بالدولار من مصرف لبنان وفقاً لسعر الصرف الرسمي، وإحالة الطلب على الدولار لاستيراد هذه المواد إلى السوق الموازية. وفي النتيجة، ارتفعت كلفة المستلزمات الطبيّة المستوردة بشكل مفاجئ بنحو 13 مرّة.

مع ارتفاع كلفة العمليات والفحوصات الطبيّة بهذا الشكل المفاجئ، لم تعد المستشفيات والمختبرات الطبيّة قادرة على الاستمرار بالعمل وفقاً لنفس جداول الأسعار التي تحكم علاقتها بشركات التأمين

لذلك، ومع ارتفاع كلفة العمليات والفحوصات الطبيّة بهذا الشكل المفاجئ، لم تعد المستشفيات والمختبرات الطبيّة قادرة على الاستمرار بالعمل وفقاً لنفس جداول الأسعار التي تحكم علاقتها بشركات التأمين.

ولهذا السبب، فرضت المستشفيات والمختبرات على المرضى دفع مبالغ كبيرة، لتغطية الفارق ما بين تسعيرات جداول الأسعار القديمة التي ستدفع على أساسها شركات التأمين، والأسعار الجديدة التي تم وضعها بعد رفع الدعم عن المستلزمات الطبيّة.

وفي كثير من الحالات، عمدت المستشفيات والمختبرات الطبيّة إلى رفض تقديم الخدمات الصحيّة على حساب شركات التأمين. ولهذا السبب، لم تعد بوالص التأمين قادرة على التأمين التغطية الصحيّة التي يمكن لأصحابها الرهان عليها.
في الوقت الراهن، تعمد الغالبيّة الساحقة من شركات التأمين اللبنانيّة إلى الاتصال بعملائها لإبلاغهم بقرارات تقضي بسداد قيمة جميع البوالص الجديدة بالدولار النقدي، بعد انتهاء صلاحيّة البوالص الحاليّة.

هذا الأمر سيمكن شركات التأمين من استعادة ملاءتها في المستقبل، لتغطية قيمة الخدمات الصحيّة وفقاً لأسعار ما بعد رفع الدعم عن المستلزمات الطبيّة.
لكن هذه الخطوة ستؤدّي إلى اقتصار خدمات التأمين من الآن وصاعداً على القلة الميسورة في المجتمع، أو على الفئة التي تتقاضى رواتبها بالدولار، وخصوصاً مع تدهور سعر صرف الليرة وتقاضي الغالبيّة الساحقة من اللبنانيين لأجورهم بالعملة المحليّة حصراً.
الأزمة الأكبر تكمن في نطاق تغطية المؤسسات الرسميّة الضامنة، وخصوصاً الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، الذي يمثّل أكبر الجهات الرسميّة التي توفّر الضمان الصحّي للعمال والموظفين في لبنان.

هذه المؤسسات، ما زالت تؤمّن التغطية الصحيّة في حدود الأسعار القديمة للخدمات الصحيّة قبل رفع الدعم، في حين أن المرضى يقومون بتغطية الفارق وفقاً للأسعار الحاليّة، ويتحمّلون بذلك الغالبيّة الساحقة من كلفة الاستشفاء والدواء.

الأزمة الأكبر تكمن في نطاق تغطية المؤسسات الرسميّة الضامنة، وخصوصاً الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، الذي يمثّل أكبر الجهات الرسميّة التي توفّر الضمان الصحّي للعمال والموظفين في لبنان

أما مأزق الصندوق، فيكمن في عدم قدرته على زيادة نطاق التغطية لعدم توفّر الإمكانات الماديّة، وعدم قدرته على زيادة الاشتراكات لزيادة ملاءته في ظل الظروف الاقتصاديّة الحاليّة. مع العلم أن الصندوق يعاني كذلك من مشاكل لا تقل أهميّة، من قبيل النسبة المرتفعة التي تم توظيفها من احتياطاته في سندات الدين السيادي.
في النتيجة، ثمة عبثيّة واضحة تحكم جميع القرارات الرسميّة، في كل ما يتصل بملفات الدعم وترشيده، وهو ما أنتج هذه الفوضى التي تعيشها اليوم قطاعات الاستشفاء والدواء والمستلزمات الطبيّة.

وفي ظل هذه الفوضى، ستكون الخدمات الصحيّة والأدوية من نصيب القلّة المحظية التي تملك السيولة الكافية للحصول عليها، أو لتجديد بوالص التأمين في المستقبل بعد أن يتم تسعيرها بالعملة الصعبة.
أما المسألة المستغربة، فهي عدم مبادرة حكومة تصريف الأعمال للتعامل مع جميع هذه الملفات، وعدم وضع رؤية لكيفيّة الخروج من مرحلة دعم استيراد الأدوية والمستلزمات الطبيّة بأقل أضرار ممكنة، رغم أن انحسار قدرة المصرف المركزي على استيراد السلع الأساسيّة كان متوقعاً منذ أشهر.

  أما الكارثة الفعليّة، فتكمن في النقص الحاصل في كثير من العقاقير والمستلزمات الطبيّة الضروريّة، لعدم توفّر السيولة في المستشفيات لشرائها، أو لعدم وجودها في مستودعات الشركات المستوردة منذ الأساس، وهو ما سيعني عدم توفّر الكثير من الخدمات الصحيّة بمعزل عن توفّر السيولة.
في هذه الحالة، سيكون على المرضى تقصّي السبل الممكنة لاستيراد هذه العقاقير والمستلزمات عند الحاجة، وبالعملة الصعبة التي تزداد كلفتها على المقيمين مع كل تدهور في سعر صرف العملة المحليّة.
وفي حالات الطوارئ، قد يكلّف التأخّر في تأمين هذه المواد حياة المرضى، تماماً كما حصل لطفلة لبنانيّة توفّيت منذ أيام، نتيجة عدم توفّر العقار المطلوب لمعالجة لسعة عقرب.

المساهمون