يستعد اللبنانيون لإضراب نقابي وعمالي شامل، اليوم الخميس، استكمالاً لسلسلة تحركات مطلبية للضغط باتجاه تشكيل حكومة إنقاذ على ضوء تفاقم الأزمة المعيشية وانسداد الأفق السياسي.
ويلفت رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن النقابات والهيئات اللبنانية كافة ستشارك في الإضراب تحت عنوان تأليف حكومة إنقاذ على الفور تساهم في إرساء نوعٍ من الاستقرار تمهيداً للنهوض بالبلاد اقتصادياً والانفتاح على الخارج والدول المانحة لتحقيق برنامج إغاثي من دون إبطاء نظراً لما يتطلبه التنفيذ من وقت يتجاوز الخمس إلى عشر سنوات.
ويشير الأسمر إلى خطورة المرحلة الراهنة على اللبنانيين والفئات الأكثر فقراً وحاجة، حيث يواجه لبنان اليوم رفع دعم مقنّعاً في ظل انقطاع الدواء والبنزين والمازوت والحليب وغيرها من السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية، محذراً من ارتفاع منسوب البيع غير الشرعي والسوق السوداء، ولا سيما على صعيد المحروقات، ما جعل الأسعار ترتفع بشكل كبير.
ويكشف رئيس الاتحاد العمالي العام عن حديث يجري في الدوائر الضيقة عن اتجاه إلى زيادة سعر ربطة الخبز ورفع الدعم عن الطحين من نوع "اكسترا" المستخدم في المعجنات مثل "البيتزا" و"المنقوشة" و"الخبز الفرنجي"، عدا عن الأزمات المتلاحقة التي تتصل أيضاً بالخدمات الإنتاجية التي تكاد تنهار على كافة المستويات.
ويلفت إلى أن التدهور يطاول بشكل جديّ مرفأ بيروت الذي تغيب عنه الإصلاحات والصيانة على صعيد الآليات والرافعات التي تتعطل الواحدة تلو الأخرى، الأمر نفسه بالنسبة إلى مؤسسة الكهرباء التي عدا عن أزمة الفيول والعتمة فهي غير قادرة على شراء قطع الغيار، والمجموعات كذلك تصيبها الأعطال تدريجياً، وهو ما ينطبق على مصالح المياه، والاتصالات والإنترنت وغيرها من القطاعات، وقد نصل إلى مكان نفقد فيه كل شيء.
وتوقف رئيس الاتحاد العمالي العام عند غلاء حليب الأطفال الرضع بشكل خاص، داعياً المعنيين إلى التحرك للجم الارتفاع المخيف في الأسعار والتي زادت من 20 و23 و25 ألف ليرة لبنانية (أقل من 20 دولاراً وفق سعر الصرف الرسمي غير المعمول به)، إلى 200 ألف ليرة (حوالي 134 دولاراً)، في السوق السوداء، وهذا أيضاً شكل من أشكالِ رفع الدعم المقنع، مع الإشارة إلى أن الحد الأدنى للأجور أصبح أقل من 50 دولاراً، بعدما تجاوز سعر الصرف في السوق السوداء الـ15 ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد.
وتحدث الأسمر عن مشاهد مخيفة بدأ يرصدها بقيام عائلات بتذويب الماء والسكر مع مواد أخرى للأطفال عوض الحليب نتيجة الشح الحاصل وربطاً بارتفاع الأسعار.
ودعت النقابات والهيئات للمشاركة الكثيفة في الإضراب العام على مختلف الأراضي اللبنانية في الشمال والبقاع والجنوب وبيروت وضواحيها ورفع الصوت عالياً لإيصال الدعم إلى الفئات الأكثر حاجة بدل أن يذهب لصالح التجار الذين يعمدون إلى تخزين البضائع في المستودعات والمهربين الذين يجنون أرباحاً طائلة تحت غطاء المسؤولين السياسيين وحرمان المواطنين منها، محذرة من تحويل مشروع البطاقة التمويلية (التي لم تقرّ بعد)، إلى أداة انتخابية توزع على مناصري الأحزاب لاستعادة القوى التقليدية شعبيتها على أبواب الاستحقاق النيابي في العام المقبل.
كذلك، أيد المجلس التنفيذي لاتحاد نقابات موظفي المصارف في لبنان الإضراب العام، معلناً مشاركته به نظراً لما يتعرض له القطاع المصرفي من أضرار، خصوصاً في ظل عدم وجود حكومة إنقاذ تتولى معالجة الأزمة المالية وموضوع المديونية العامة التي ابتلعت أموال المودعين والتفاوض مع صندوق النقد والبنك الدوليين من أجل التفاهم على خطة إصلاحية من خلالها يمكن الانطلاق بسياسات مالية تعيد ثقة اللبنانيين والمجتمع الدولي بالقطاع المصرفي، وفق ما ذكر بيان الاتحاد، الذي حصلت "العربي الجديد" على نسخة منه.
وناشد المجلس كافة الإدارات المصرفية التجاوب مع نداء الاتحاد العمالي العام والموافقة على توقف العمل في كافة الإدارات والفروع في كافة المناطق تضامناً مع مطلب الاتحاد بضرورة الإسراع بتشكيل حكومة مهمة. وامتدت الأزمة إلى الموظفين في المصارف.
ووفق مصادر تحدثت مع "العربي الجديد"، بدأ عدد من المصارف الكبرى في اتخاذ إجراءات لصرف مجموعة جديدة من الموظفين، لافتة إلى أن بعض المصارف خيرت الموظفين بين إنهاء العمل أو الانتقال إلى فروع أخرى ولكن بمواقع ومهام مختلفة عن طبيعة أعمالهم الأساسية، الأمر الذي بدأ يحدث بلبلة ومخاوف حيال مصير الموظفين الذين يصعب عليهم الصمود بوجه الأزمات المتفاقمة معيشياً والغلاء الفاحش وفي ظل انعدام فرص العمل ولا سيما في القطاع المصرفي.
وعلى الصعيد نفسه، كشفت مصادر في القطاع التجاري أن شركات كبرى، منها كيانات عالمية في مجالات الغذاء والتجميل، بدأت تبلغ موظفيها بقرار إقفال مراكزها في لبنان والانتقال إلى دول أخرى، منها الإمارات ومصر، وستخير الموظفين إما بالعمل لديها في مراكزها الجديدة في الخارج أو الحصول على تعويض الصرف من الخدمة.
وقد تسببت الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يشهدها لبنان ولا سيما منذ أواخر عام 2019 بإقفال مئات الشركات في مختلف القطاعات، ما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر والجوع مع استمرار تحليق سعر صرف الدولار وتدهور قيمة العملة الوطنية بشكل غير مسبوق في تاريخ البلاد.
وفي أحدث تقرير صادر عن مؤسسة "الدولية للمعلومات"، في مايو/ أيار الماضي، تقدر نسبة الفقر بـ55% من اللبنانيين المقيمين، أي نحو 2.365 مليون مواطن، منهم 25% دون خط الفقر، أي 1.075 مليون شخص، وهؤلاء لا يكفيهم دخلهم لتوفير الكميات الكافية والصحية من الغذاء، و30% منهم فوق خط الفقر، أي 1.290 مليون فرد، وهؤلاء يكفي دخلهم لتوفير الغذاء ولكنهم يعانون من ظروف معيشية صعبة من السكن والملبس والتعليم وغيره.
وأشار التقرير إلى أن نحو 45% من اللبنانيين المقيمين لا يتمتعون بأي تعطية صحية إلا ما تؤمنه وزارة الصحة العامة، في حين أن نحو 5% فقط من المواطنين هم من الأثرياء، أي 215 ألف لبناني، لافتاً إلى أن نحو 95% من العاملين في البلد يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية.
وأضاف التقرير أن 70% من العاملين تراوح رواتبهم الشهرية بين 1.5 مليون ليرة و3 ملايين ليرة، وقد بلغت نسبة البطالة 35%، أي نحو 480 ألف شخص، وهناك نحو 300 ألف شخص يعملون بصورة متقطعة في مهن غير دائمة ولا تشكل استمرارية.
ويتزامن الإضراب الشامل مع عودة التحركات الاحتجاجية إلى الشارع اللبناني، والتي تتوجه بشكل خاص إلى الطبقة السياسية الحاكمة والقطاع المصرفي، الذين يواصلون بممارساتهم صرف ودائع الناس المحتجزة في البنوك على مشاريع هدر إضافية وتدابير عشوائية غير مبنية على برنامج اقتصادي إصلاحي شفاف يعالج أساس الأزمة.
ومنذ 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، تحتجز المصارف اللبنانية حسابات الودائع بالدولار، كما وضعت سقوفاً على السحوبات من حسابات الليرة اللبنانية. ويشتد الحصار الخارجي على لبنان في ظل استمرار التجاذبات السياسية التي تحول دون تشكيل حكومة إنقاذ، فيما تتزايد التحذيريات الدولية من خطورة الأزمة وانعكاساتها الكارثية على الشعب اللبناني.
وفي مطلع يونيو/ حزيران الجاري، حذر البنك الدولي من أن "لبنان يغرق"، ورجّح أن تحتل الأزمة المالية والاقتصادية في البلد مرتبة من الثلاث الأولى من الأزمات الأكثر حدة على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.
ووفقاً لتقرير "المرصد الاقتصادي اللبناني" الصادر عن البنك، فإن الناتج المحلي الإجمالي للبنان انخفض من نحو 55 مليار دولار عام 2018 إلى 33 مليار دولار في 2020، كما انخفض نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بنسبة 40% تقريباً، وحذّر من أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية تُنذر "بفشل وطني شامل له عواقب إقليمية وعالمية محتملة".