استمع إلى الملخص
- فرص إعادة الإعمار والاستثمار في سوريا الجديدة: تلوح فرص اقتصادية واعدة مع سقوط النظام السابق، حيث يمكن لعودة الاستثمارات السورية من الخارج أن تساهم في إعادة بناء الاقتصاد وتوفير فرص عمل.
- استقطاب الكفاءات السورية المهاجرة: يمثل الأطباء والمهندسون السوريون المهاجرون ثروة بشرية هائلة، ويمكن أن يساهموا في تطوير قطاعات حيوية، مما يتطلب بيئة مناسبة لاستقطابهم.
بعد مرور أكثر من 13 سنة على اندلاع الثورة السورية في مارس/ آذار سنة 2011، هرب بشار الأسد وترك سورية مدمرة بعدما ضرب مدنها بالأسلحة الكيميائية وقصفها بالبراميل المتفجرة ورجمها بالصواريخ. وعندما فشل في إخماد الثورة وأصبح على بعد أيام من السقوط، استعان بإيران وروسيا وحزب الله اللبناني لإنقاذه. ودمرت العمليات العسكرية التي شنتها القوات الأجنبية البنية التحتية لشبكة المواصلات والكهرباء والصحة ولتعليم والمياه والصرف الصحي والمصانع والمزارع والمستشفيات، وأتت على 85% من الاقتصاد السوري، وتحولت سورية إلى ركام.
وبعدما وصل الاقتصاد السوري إلى ذروته في سنة 2011 بناتج محلي إجمالي بلغ نحو 67.5 مليار دولار، واحتلت سورية المرتبة 68 بين 196 دولة في تصنيف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، متفوقة في هذا التوقيت على دولة مثل كرواتيا ذات الناتج المحلي الإجمالي الذي بلغ 63 ملياراً، هبط الاقتصاد السوري في 2024 إلى المرتبة 129 في التصنيف العالمي، وانكمش الناتج المحلي إلى أقل من تسعة مليارات دولار فقط، وفق تقديرات البنك الدولي.
وهذا ما يضع سورية حالياً في مرتبة أقل من الصومال التي وصل الناتج المحلي الإجمالي لها إلى 11.6 مليار دولار. أما كرواتيا التي اعتمدت مبادئ الحوكمة والشفافية والحرية، فقد بلغ ناتجها الإجمالي هذا العام 82.7 مليار دولار.
وفي سنة 2020، قدرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، بأن خسائر الاقتصاد السوري بلغت 442 مليار دولار خلال ثماني سنوات بسبب الحرب. وقدرت دراسة أخرى أعدها المركز السوري لبحوث الدراسات أن خسائر الاقتصاد السوري في الفترة نفسها بلغت 530 مليار دولار، وهو ما يعادل عشرة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي قبل الثورة.
وأظهرت الدراسة الآثار الكارثية لاعتداء قوات الأسد وحلفائه على الشعب السوري ومقدراته بكل الأسلحة المحرمة، والتي أحالت السوريين إلى مشردين وعاطلين من العمل، فارتفع معدل البطالة من 14.9% في عام 2011 إلى 51.8%، وارتفعت نسبة الفقر في البلاد من 1% في عام 2010 إلى نحو 86% من السكان مع نهاية 2019.
هذه الخسائر الاقتصادية، رغم فداحتها، لا تقارن بقتل قوات الأسد وحلفائه أكثر من 600 ألف سوري، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان، منهم 26 ألف طفل و16 ألف امرأة، ولا بتهجير 13 مليون سوري قسرا، من بينهم 7.2 ملايين نازح داخليا، و6.5 ملايين لاجئ في الخارج، وفقا لآخر إحصائيات الأمم المتحدة، فضلا عن تدمير مستقبل الدولة بفقدان مليونين ونصف مليون طفل حقهم في التعليم.
وإذا كان الرئيس المخلوع قد نجح في جعل الواقع السوري مأساوياً بكل معنى الكلمة، في مقابل الحفاظ على كرسي الحكم، لكن سقوطه وهروبه خارج سورية أزال الكابوس الذي جثم على صدر السوريين ومنحهم فرصة لتنفس الهواء الصحي من جديد. ومن الإيجابيات في المشهد الحالي، أن سورية الجديدة لديها فرص اقتصادية واعدة ومتنوعة إذا أحسنت حكومة وطنية استثمارها، فالحياة الكريمة للشعب السوري، الذي فقد حقوقه الإنسانية والسياسية والاقتصادية منذ تولى حافظ الأسد الحكم قبل 54 سنة في 1970، جديرة بأن تتحقق في وقت ليس بعيد.
الأموال المهاجرة من سورية
هناك فرصة لعودة رجال الأعمال السوريين ومليارات الدولارات وإعادة استثمارها في سورية الجديدة. فمن بين ملايين السوريين اللاجئين، خرج كثير من الأثرياء السوريين بأموالهم إلى تركيا ولبنان ومصر والأردن، ونقلوا معهم معاملهم ومصانعهم وتجارتهم من محافظات سورية، وخاصة من حلب، عاصمة المال والأعمال، والتي كانت تساهم بربع الناتج المحلي الإجمالي و50% من صادرات البلاد.
وبلغ عدد اللاجئين السوريين في تركيا 3 ملايين و112 ألف سوري، وفقا لبيانات دائرة الهجرة التركية. عدد ضخم من هؤلاء السوريين رجال صناعة وأرباب أعمال، وتقدر استثماراتهم في تركيا بما بين خمسة مليارات وعشرة مليارات دولار، بحسب تقرير لمركز حرمون للدراسات.
وتتوزع هذه الاستثمارات في شركات برأس مال بين 100 ألف دولار وأكثر من مليون دولار، بالإضافة إلى شركات قابضة برؤوس أموال تبلغ عدة ملايين من الدولارات. وصرح المستثمرون في غازي عنتاب التركية بأن حجم الاستثمارات السورية في هذه المحافظة وحدها يراوح بين مليار وخمسة مليارات دولار. ويقدر رجال أعمال سوريون استثماراتهم في تركيا بأكثر من عشرة مليارات دولار.
وهناك أموال ضخمة خرجت من سورية إلى لبنان عبر الحدود المفتوحة بين البلدين. وتعليقاً على أزمة سورية المالية في سنة 2020، قال الرئيس المخلوع بشار الأسد إن سبب الأزمة السورية أن ما بين 20 مليار دولار و42 مليارا من الودائع فقدت، أو نقلت، في القطاع المصرفي اللبناني الذي يملك عملة صعبة تزيد عن 170 مليار دولار. ورد الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف اللبنانية سمير حمود بأن حجم ودائع السوريين في المصارف اللبنانية تشكل نحو 6% من إجمالي الودائع، أي لا تتجاوز سبعة مليارات دولار فقط، وتم تحويل نحو ستة مليارات دولار منها إلى خارج لبنان.
لكن موقع "بي بي سي" عربي يقدر الأموال السورية في لبنان بنحو 30 مليار دولار، وذلك وفق مصادر مصرفية. ويرجح أن تكون معظمها قد نقلت قبل الأزمة اللبنانية في 2019 إلى تركيا. وتقدر منظمة الهجرة الدولية أن في مصر ما يقارب مليونا ونصف المليون لاجئ سوري بين عامَي 2011 و2022، من بينهم 30 ألفا مستثمرون. كما بلغ عدد الشركات السورية المسجلة لدى دائرة مراقبة الشركات الأردنية 4100 شركة، تتوزع على قطاعات الصناعة والتجارة والعقارات، مع إجمالي رؤوس أموال تجاوزت الـ310 ملايين دولار.
هذه الأموال والأعمال والعلاقات التجارية تحتاج إلى حوافز استثمارية وبيئة سياسية مستقرة لاستقطابها وإعادة توطينها في سورية الجديدة. وسوف تكون هذه الأموال، أو جزء كبير منها، قاطرة للتنمية في سورية الجديدة. ومن المتوقع أن تقوم شراكات اقتصادية وتجارية بين الشركات والمصانع السورية القائمة في تركيا ولبنان والأردن ومصر وبين الكيانات الاقتصادية المنتظرة في سورية الجديدة.
وسوف تكون هذه الكيانات الجديدة بيوت خبرة عصرية وقاطرة للاقتصاد والتنمية في سورية الجديدة، وروافد لتوظيف الملايين من الشباب السوري الذي يعاني من البطالة والفقر منذ سنوات بسبب ويلات الحرب. وبدأت بالفعل الطيور السورية المهاجرة من أرباب الصناعات والتجارة والأعمال الدخول للأراضي السورية من المعابر على الحدود التركية، لدراسة كيفية نقل أموالهم وأعمالهم وتجارتهم وخبراتهم إلى وطنهم الأم في أقرب وقت.
الطيور المهاجرة
تعمدت قوات أمن النظام السوري تصفية الأطباء والمسعفين ميدانيا منذ بداية الثورة، وقصفت المستشفيات ودمرتها على من فيها، دون اعتبارها ملاذات آمنة في وقت السلم والحرب وفقا لقواعد القانون الدولي الإنساني، واعتبرت أن الطبيب أخطر من الثوار أنفسهم. ومبررهم في ذلك، كشفه أحد الأطباء السوريين في شهادته لمنظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان بقوله إن المحقق قال له "أنت بصفتك طبيباً أخطر بكثير من الإرهابيين.. نحن نقتلهم وأنت تعيدهم". المنظمة وثقت قتل 900 اختصاصي طبي، وسجن 3364 من مقدمي الرعاية الصحية وطلاب الطب بشكل غير قانوني من قبل الأجهزة الأمنية السورية خلال عشر سنوات من أحداث الثورة، وظلوا محتجزين أو مختفين قسريا حتى آخر لحظة من عمر النظام.
وكان من بين المهجرين قسريا من هاجر إلى أوروبا والولايات المتحدة، ويقدر عددهم بنحو 15 ألف طبيب، يمثلون نصف عدد الأطباء تقريبا في عموم سورية، البالغ عددهم سنة 2010 حوالي 30 ألفا. وتصدر السوريون قائمة الأطباء الأجانب في ألمانيا، إذ بلغ عددهم ستة آلاف و120 طبيباً سورياً، بحسب إحصائيات الجمعية الطبية الفيدرالية الألمانية، ويعمل ما يقرب من خمسة آلاف منهم في المستشفيات الألمانية، مع خمسة آلاف سوري آخرين يعملون في التخصصات الطبية معاونة.
اكتسبوا جميعاً الخبرة الألمانية في كل تخصصات الطب، والكثيرون منهم يعدون العدة للعودة والنهوض بالقطاع الطبي في سورية الجديدة. وفي إحدى مجموعات "فيسبوك" للأطباء السوريين في ألمانيا، أظهر استطلاع سريع للرأي أُجري في يوم سقوط الأسد أن 74% من 1200 مشارك قالوا إنهم يفكرون في العودة الدائمة، وفق وكالة رويترز. حتى أنّ رئيس جمعية دعم المستشفيات الألمانية غيرالد غراس حذر من خطورة مغادرة الأطباء السوريين بلاده بشكل مفاجئ بعد سقوط النظام السوري السابق، لتأثير ذلك الكبير على الرعاية الصحية الألمانية.
كما هاجر إلى ألمانيا منذ بداية العنف ضد المتظاهرين نحو 3000 مهندس سوري، مع نحو 43 ألف سوري يعملون في قطاع التصنيع الألماني، ضمن 1.2 مليون سوري وصلوا إلى ألمانيا منذ بداية الثورة وبتسهيلات من حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. نسبة كبيرة من هؤلاء المهندسين والعمال المهرة يريدون العودة لسورية الجديدة، ويعتبرون ثروة لا تقدر بثمن، وسيكون لهم دور كبير في بناء نهضة حقيقية بخبرات ألمانية.
والحكومة في سورية الجديدة معنية باستقطاب هذه الكفاءات وتمكينها من قيادة التنمية والتطوير في مجالات التكنولوجيا والصحة والتعليم. وهي ثروة سورية في الأساس. وفي تقرير للتلفزيون الألماني في خضم الثورة السورية في سنة 2015، يكلف إعداد الطبيب السوري خلال سبع سنوات نحو مليون دولار، وتتضمن تكاليف الدراسة الجامعية والبنية التحتية التعليمية والتدريبية التي تسبق حصوله على شهادة ممارسة المهنة. وتراوح كلفة إعداد المهندس ما بين نصف مليون دولار وثلاثة أرباع مليون دولار.
وبحسبة بسيط، هاجر إلى ألمانيا فقط نحو عشرة آلاف طبيب ومهندس، أنفقت عليهم سورية نحو ثمانية مليارات دولار خلال سنوات تعليمهم وتدريبهم. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن حملة الشهادات الجامعية العليا، ولا سيما من المهندسين والأطباء، يشكلون نسبة تزيد على 15% من مجمل اللاجئين السوريين، وحملة الشهادة الثانوية يشكلون 35% منهم، فإنّ هذه الإمكانات هي رأس المال البشري السوري، والثروة الاقتصادية المستنزفة من سورية خلال ثورتها العادلة، وعلى الحكومة العمل بجد وعزيمة لتهيئة البيئة الاستثمارية والتشريعية وتشجيعها على العودة لوطنها وإشراكها في بناء سورية الجديدة.