مع دخول الحرب الروسية في أوكرانيا شهرها الثاني، يخشى الأوروبيون من أن استمرارها لفترات أطول سيعقد الأمور أكثر على مستوى الاقتصاد والنمو والأسواق، فالأثمان التي تدفعها مجتمعات القارة العجوز تدفع إلى ظهور بعض التململ من التبعات، التي لم تعد تقتصر على التكاليف الباهظة الناجمة عن الارتفاع الجنوني لأسعار الطاقة، وإنما أيضاً تسليح أوكرانيا وتدفق اللاجئين.
وتتصاعد المخاوف من أن تتجاوز فاتورة الحرب وانعكاس العقوبات الغربية الواسعة ضد موسكو، تكاليف أزمة جائحة فيروس كورونا خلال العامين الماضيين، ما يزيد قلق العديد من العواصم من نشوء تذمر شعبي من الفواتير العابرة للحدود.
ورغم أن العقوبات والمقاطعة الغربية تحمل سيناريوهات قاتمة لروسيا، إلا أن مراهنة الغرب على "الحرب الاقتصادية" وتأثيراتها على المدى البعيد، تعني في المقابل وجود إرادة لدفع الثمن في القارة الأوروبية. بينما الروس بطبيعة الحال لديهم الثغرات التي يمكن من خلالها جعل محاولة خنقهم اقتصادياً أقل فعالية، وفق مراقبين.
رغم أن العقوبات تحمل سيناريوهات قاتمة لروسيا، إلا أن مراهنة الغرب على "الحرب الاقتصادية" وتأثيراتها، تعني وجود إرادة لدفع الثمن في القارة الأوروبية
ففي بداية مارس/ آذار الجاري، التقى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف سفراء دول "البريكس" (البرازيل والهند والصين وجنوب أفريقيا)، طالبا منهم "تعميق الشراكة الاستراتيجية" مع بلده، رغم أنه ليس بالخيار الذي يعوض علاقة موسكو بأوروبا. وتعد روسيا أحد أعضاء البريكس.
وتتجه الأنظار نحو الموقف الصيني الحاسم من موسكو، وخصوصا أن الأوروبيين على موعد مع القمة الأوروبية ـ الصينية في الأول من إبريل/ نيسان المقبل.
ويراهن الأوروبيون على أن بكين لن تخاطر بعلاقتها بالغرب من خلال دعم روسيا عسكريا ودبلوماسيا واقتصاديا، ورغم ذلك فإن لا شيء مضمونا في سياسة العقوبات الغربية المحفوفة بكثير من المخاطر.
فالصين ترى أيضا أن نظام العولمة الاقتصادي تحول من كونه أملاً في السلام والازدهار إلى سلاح في صراع القوى الدولية.
وفي ظل هذه التشابكات، باتت المراهنة الغربية على تأثير الحملة الاقتصادية على موسكو تصطدم بواقع مختلف عن "اللوحة الجميلة للتضامن الأوروبي".
فمسألة استمرار تدفق الطاقة من روسيا إلى الدول الأوروبية، لا يبدو أن لها نهاية أو بدائل سريعة، حيث تشير التقديرات الغربية إلى ضخ 850 مليون يورو يومياً في شرايين الاقتصاد الروسي.
ويقف رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان موقفا أقرب إلى التمرد على وحدة الصف الأوروبي. فالرجل المتهم بأنه يملك طموحات حكم بلاده بطريقة تشبه حكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يذهب في الشهر القادم نحو انتخابات برلمانية مصيرية.
ويرفض أوربان "العقوبات الغربية التي تعرض أمن الطاقة في المجر للخطر"، بحسب ما ذكره بعد قمة الأوروبيين والناتو، يوم الخميس الماضي، مضيفا في عبارات لمغازلة الناخبين: "لن نسمح بأن يدفع الشعب المجري (الهنغاري) ثمن الحرب".
وكانت بودابست قد وقعت قبيل غزو أوكرانيا، على عقد غاز طويل الأمد مع موسكو، يضمن للمجر الغاز الروسي بسعر منخفض.
ويعتبر موقف أوربان نموذجياً في ارتباك الأوروبيين ومعضلتهم في العلاقة المعقدة بالغاز والطاقة الروسيين. فالأوروبيون الذين خصصوا المليارات لمساعدة الأوكرانيين بالسلاح، وهو ليس مجانياً، وفق محللين، فضلا عن حزمة مساعدات مالية، يبدون رغبة عاطفية في البداية لتحمل الكلفة، معتبرين أن التصدي لروسيا في أوكرانيا أقل كلفة من وصول روسيا إلى دولهم.
لكن مع الآثار الاقتصادية الناجمة عن ارتفاع الأسعار، سواء الطاقة أو الأغذية والحبوب وتكاليف الحياة عموماً، تتصاعد المخاوف من نشوء تذمر شعبي، وهو ما دفع برلين على سبيل المثال، إلى تدابير عاجلة لمساعدة سكانها من خلال تخصيص 300 يورو لكل مواطن، ودعم إضافي للعائلات التي لديها أطفال، وتبني سياسة تخفيض أسعار وسائل النقل الجماعي.
ومثلما هي بودابست تخشى من الأعباء المالية للحرب فإن وزير الطاقة الألماني روبرت هابيك عبر عن مخاوف بلاده من أزمة اقتصادية "حادة تشمل ألمانيا وأوروبا إذا توقفت إمدادات الغاز والنفط من روسيا"، وأبدى خشيته على ما سماه "السلام الاجتماعي".
وفي غياب البدائل السريعة للطاقة من روسيا، ومع تدفق أخبار الدمار على الأرض الأوكرانية، حيث يسلط بشكل خاص على مدينة ماريوبول الساحلية الجنوبية، قد تبدو التضحية بدفع المزيد من كلفة الغاز والبنزين أمراً طبيعياً. لكن الأمور لا تسير على هذا النحو مع بداية وصول الأوروبيين إلى حالة التأثر العميق بنتائج الحرب.
وتختلف بطبيعة الحال الاستعدادات للتضحية، بحسب قدرة الدول على إيجاد بدائل ذاتية. ففي كوبنهاغن، قال وزير المالية الدنماركي نيكولاي فامن إن "الحرب لها ثمنها، سيكلفنا ذلك جميعا".
مع الارتفاع الجنوني في أسعار الوقود والبنزين تحاول الدنمارك البحث عن حلول ذاتية، برفع إنتاجها وتشغيل خطوط متوقفة لإنتاج الغاز في بحر الشمال
ومع الارتفاع الجنوني في أسعار الوقود والبنزين تحاول الدنمارك البحث عن حلول ذاتية، برفع إنتاجها وتشغيل خطوط متوقفة لإنتاج الغاز في بحر الشمال، والدخول في اتفاقيات مع جارتها النفطية الشمالية، النرويج.
وفي نهاية الأسبوع الماضي، أشار الكاتب الاقتصادي في صحيفة "دي تسايت" الألمانية مارك شيريتز إلى ما وصفه بـ"الحقيقة المرة"، لافتا إلى أن الدول الأوروبية لم تعد قادرة على اللجوء إلى استثمار نفسها للخروج من هذه الأزمة".
برأي شيريتز، المشكلة في الواقع أعمق من مجرد إمدادات الطاقة، موضحا أنه "نحن بالفعل نفتقر إلى القوى العاملة، وسوف نفتقر بشكل عاجل إلى الطاقة، ونتيجة لذلك فإننا سوف نفتقر إلى العناصر الدافعة للنمو المستمر، لذلك نحن نفتقر إلى العناصر الأساسية التي لا يمكن شراؤها مقابل المال".
وعلى عكس أزمة كورونا، اعتبر الكاتب الألماني أنه "لا يمكننا فقط طباعة المزيد من الأموال، أو زيادة الدين الحكومي والحفاظ على عمل المحرك".
التأثير المباشر للحرب على اقتصادات أوروبا بات يطل برأسه أكثر مع امتداد أيام الحرب. فمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ترى أخيراً، أن التأثير المباشر للحرب سيخفض الناتج المحلي الإجمالي للنمو في منطقة اليورو هذا العام بنسبة 1.4%. بل أبعد من ذلك تبشر المنظمة بأن التضخم سيرتفع بنقطتين مئويتين أخريين.
نظرياً سيكون تأثير الحرب الروسية على أوكرانيا أقل من تأثير وباء كورونا، الذي لم تتعاف منه القارة بعد، لكن العواقب ستتركز بشكل مختلف على مناطق محددة وحساسة.
فالتداعيات الجيوسياسية للحرب ستكلف الخزائن في منطقة اليورو، بالإضافة إلى التأثير المباشر من حيث انخفاض النمو وارتفاع الأسعار.
منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ترى أخيراً، أن التأثير المباشر للحرب سيخفض الناتج المحلي الإجمالي للنمو في منطقة اليورو هذا العام بنسبة 1.4%
والوجه الآخر للكلفة المالية الأوروبية يتمثل في خروج نحو 3.8 ملايين لاجئ أوكراني، مع تقدير أن يصل الرقم إلى 8 ملايين، نحو بلدان الاتحاد الأوروبي.
واستقبال اللاجئين من أوكرانيا، وسط "تضامن" مختلف عن ذلك الذي ووجه به لاجئو الشرق الأوسط وأفريقيا، لا يتم من خلال "معسكرات اللجوء" بل تبادر الدول إلى سياسة تأمين سكن وطعام وتعليم للقادمين.
وتلك التكاليف الوطنية، وليس من خلال خطط "توزع اللاجئين"، كما حاولت أوروبا بعد "أزمة اللاجئين في 2015"، تضاف واقعياً إلى بقية التكاليف التي تستوجب تضامناً أوروبياً للعثور على مصادر جديدة لتمويل الخزائن لتقديم العون للقادمين، وخصوصا الأسر.
وأثارت الحرب أيضاً انتقادات واسعة بين الغربيين، ويشير البعض إلى انتهاج الغرب سياسة "انتهازية" في علاقاته بدول خليجية وغيرها، حين البحث عن بدائل للطاقة الروسية، إذ يرى الأوروبيون أن تزويد القارة بنحو 15 مليار متر مكعب إضافية من الغاز المسال خلال العام الجاري بمقتضى اتفاق مع الولايات المتحدة، مساء الجمعة الماضي، يجب أن يترافق مع مفاوضات مع الدول الأخرى.
وتظهر بيانات شركة "غازبروم إكسبورت" أن عملاق الغاز الروسي "غازبروم" قام بتوريد 174.9 مليار متر مكعب من الغاز إلى الدول الأوروبية في عام 2020، بواقع 78% منها إلى بلدان غرب أوروبا، شاملة تركيا، و22% إلى بلدان وسط أوروبا.
في ظل الأزمة الحالية، بات المواطن الأوروبي يدفع الثمن، بينما يسيطر التشاؤم على المحللين والمتخصصين من استمرار الوضع المأزوم مع روسيا
وجاءت ألمانيا وإيطاليا والنمسا في صدارة الدول المستوردة للغاز الروسي بواقع 45.8 مليار متر مكعب و20.8 ملياراً و13.2 ملياراً على التوالي.
وفي ظل الأزمة الحالية، بات المواطن الأوروبي يدفع الثمن، بينما يسيطر التشاؤم على المحللين والمتخصصين من استمرار الوضع المأزوم مع روسيا، ما يثير قلق المستويات السياسية والاقتصادية من انعكاسات لم تكن في الحسبان، وخصوصا الخوف من أن تتحول وحدة الصف الأوروبي إلى تذمر شبيه بالمجري، وغيره من المكتوم، ليصب في نهاية المطاف في مصلحة موسكو بشق صفوف الغرب.