في محاولة لتخفيف تداعيات أزمة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، الذي قتل أكثر من مليون شخص، ومازال يعاني منه أكثر من 7.6 ملايين آخرين، على اقتصادات العالم، سارعت أغلب الدول إلى تخفيض معدلات الفائدة لديها، واستخدمت العديد من وسائل التيسير الكمي المتاحة لها، من أجل مساعدة اقتصاداتها على استعادة الانتعاش، وتجنب أزمات سيولة على غرار ما حدث في الأزمة المالية العالمية في 2008.
وكما فعلت أغلب دول العالم، خفضت مصر معدل الفائدة على الجنيه المصري بثلاثمائة نقطة أساس (ما يعادل 3%)، في ما وصفته وكالة بلومبيرغ الأميركية في أحد تقاريرها الصادرة الشهر الماضي بأنه الإجراء الحقيقي الوحيد الذي اتخذته الحكومة المصرية لتخفيف تداعيات الوباء على المواطنين والشركات في مصر، قبل أن يعود البنك المركزي ويخفض معدل الفائدة على الجنيه المصري بمقدار 50 نقطة أساس (0.5%) يوم الخميس الماضي.
وفي نفس اليوم الذي خفض فيه المركزي المصري الفائدة، خطف البنك المركزي التركي الأنظار حين قرر، في خطوة لم يتوقعها أغلب المحللين، رفع الفائدة على الليرة التركية بمائتي نقطة أساس (2%)، في خطوة هي الأولى من نوعها منذ عام 2018. وفي الوقت الذي أشار فيه بيان البنك المركزي التركي إلى أن ارتفاع معدل التضخم، بعد تعافي الاقتصاد السريع، كان وراء القرار، لا يخفى على المتابعين للشأن الاقتصادي التركي أن الدفاع عن العملة المحلية الليرة، التي تعرضت لضغوط كبيرة في الفترة الأخيرة، كان الدافع الأهم وراء القرار.
وسارع المحللون، خاصة في الدول التي يعادي الإعلام فيها تركيا وسياساتها تحت قيادة أردوغان، باعتبار قرار البنك المركزي التركي بمثابة تعبير عن حالة الضعف التي يمر بها الاقتصاد التركي بعد التأثيرات السلبية للجائحة على أهم مصادر النقد الأجنبي للبلاد.
ورغم أن الأزمة أثبتت أن أغلب اقتصادات العالم عانت بصورة واضحة خلال الشهور الماضية، تناسى هؤلاء أن تركيا خفضت معدلات الفائدة على عملتها تسع مرات خلال أقل من عام، بقيمة تتجاوز 1500 نقطة أساس (15%)، في إشارة واضحة على قوة الاقتصاد خلال العامين والنصف الماضيين.
لم يكن أردوغان متحمساً في أي وقت منذ وصوله للسلطة في تركيا لمعدلات الفائدة المرتفعة، من منطلق شرعي على الأرجح، ولم يقنع باستخدامها لاجتذاب الاستثمار الأجنبي غير المباشر في أدوات الدين بعملته المحلية، كما فعلت كثير من الدول النامية والناشئة، رغبةً منه في توفير قوة حقيقية راسخة للاقتصاد، بدلاً من الاعتماد على الأموال الساخنة، التي اعتبرها نوعاً من المضاربة لا تلبث أن تسارع بالهروب في أشد أوقات الاحتياج إليها، رغم قسوة الثمن الذي قد يتحمله من جراء هذا الموقف.
وبعد رفع معدل الفائدة الأخير، تدفع الحكومة التركية 12% تقريباً لحامل أذن الخزانة لمدة سنة، بينما تدفع دول أخرى، تتشدق ليلاً ونهاراً بتطبيق نموذج الإصلاح الاقتصادي الذي يتعين على دول العالم تقليده، لحامل نفس الورقة فيها أكثر من 13%. وبينما تعتبر دولٌ أن تخفيض نسبة الدين العام لديها إلى الناتج المحلي الإجمالي ليصبح 90% هو أفضل ما يمكن عمله، مازالت النسبة في حدود 33% في تركيا، رغم ارتفاعها بصورة واضحة خلال العامين الأخيرين.
وفي حين تأثرت أغلب بلدان العالم بأوامر الإغلاق الكبير التي استهدفت الحد من انتشار فيروس كورونا، وتسببت في توقف حركة السفر تماماً لأكثر من شهرين، تعرضت تركيا، التي يحتل اقتصادها المرتبة الثالثة عشرة بين اقتصادات العالم باستخدام مفهوم تعادل القوى الشرائية PPP، لخسائر كبيرة بسبب المساهمة الواضحة لقطاع السفر والسياحة الذي مثل في 2018 أكثر من 12% من الناتج المحلي الإجمالي بها.
وارتفعت عائدات السياحة في تركيا بصورة واضحة خلال السنوات الأخيرة، لتتجاوز 35 مليار دولار في 2019، وهو ما دعم عملتها المحلية رغم تخفيض معدلات الفائدة، قبل أن يأتي الفيروس ليضغط عليها من جديد. ورغم الضغوط الحقيقية التي تسببت فيها الجائحة على الدولة التي تستضيف 3.7 ملايين سوري، وتكفلت بكامل نفقات التعليم والصحة الخاصة بهم (وفقاً لبيانات الحكومة الأميركية)، لا يخفى على أحد الدور الذي تلعبه بعض البنوك، بدعم من حكومات تتمنى الإطاحة بأردوغان، في المضاربة على العملة ووضعها تحت المزيد من الضغوط المصطنعة.
وبينما هرعت بعض الدول، التي لم تقدم لمواطنيها إلا النذر اليسير من المساعدات خلال الأزمة، لصندوق النقد والبنك الدوليين طلباً للمساعدة والحماية من تبعات الجائحة، رغم أن أزماتها كان مرجعها الأساسي هو سوء الإدارة، يتمسك أردوغان بعدم اللجوء للمؤسستين الدوليتين اللتين ثبت استغلالهما لأزمات الدول المقترضة، وقسوة التحولات التي تمر بها الشعوب عند الاضطرار للاقتراض منهما.
لا أحاول التقليل من أزمة العملة التركية، ولا من الضغوط التي يتعرض لها الاقتصاد التركي، خلال الفترة الحالية، إلا أن وضع الأمور في نطاقها السليم كان ضرورياً، خاصة في ظل الحرب الإعلامية التي يتعرض لها البلد الذي مازال يعمل فيه حتى الآن أكثر من 1700 شركة أميركية.
وفي تقرير لوزارة الخارجية الأميركية صدر قبل أسبوعين، وصفت الوزارة، التي لا تحب الرئيس التركي ولا سياساته غير الخاضعة لها، الاقتصاد التركي بالصلابة، نتيجة للإصلاحات التي تم تطبيقها خلال السنوات الأخيرة، مؤكدة على التطوير الجيد لبنيته التحتية، وقوة الاستهلاك التي تدعمه، كما القوى العاملة المتعلمة المتوفرة لديه.
ربما يضطر البنك المركزي التركي لرفع معدلات الفائدة بمائة أو مائتي نقطة أساس إضافية لتجاوز معدل التضخم، وربما يُظهر الاقتصاد ككل انكماشاً بنهاية العام الحالي، كما سيكون الحال في أغلب البلدان الأوروبية، القوي منها والضعيف، لكن الشيء المؤكد أن استئناف عمليات الطيران واقترابها من معدلاتها الطبيعية، مع توفير اختبارات الكشف السريع عن فيروس كورونا، أو التوصل لمصل يمنع الإصابة به، سيدعمان عودة السياحة إلى تركيا تدريجياً، وهو ما سيوفر الدعم لعملتها، ويجذب الاستثمارات الأجنبية مرة أخرى، رغم قوة المؤامرات.