- الأسباب الإضافية للتأخير تشمل تجنب الضغوط التضخمية، اختناقات العرض، والحاجة لمزيد من الوقت لبناء المصانع وتوفير الموارد البشرية.
- السعودية تواجه تحديات مالية تتطلب الاقتراض وتعاني من عدم تحقيق الاستثمارات الأجنبية للمستهدفات، لكن ديونها المنخفضة نسبيًا توفر مساحة للمناورة المالية.
خلال الشهور الماضية طفت على السطح تقارير تتحدث عن تأخر إنجاز بعض المشروعات الكبرى داخل السعودية، منها مشروع "نيوم" العملاق. وبرز التصريح الرسمي الأول عن تأخر تنفيذ بعض المشاريع الكبرى مطلع ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي، عندما صرّح وزير المالية محمد الجدعان، بأن المملكة بصدد تأخير بعض المشاريع التي أُطلِقَت كجزء من خطة التحول الاقتصادي إلى ما بعد عام 2030، وأن المملكة مضطرة إلى تغيير الجدول الزمني لتحقيق أهداف البرنامج الذي تبلغ قيمته عدة تريليونات من الدولارات، وذلك بعد توقعات وزارته باستمرار عجز الموازنة العامة حتى عام 2026، وذلك في إشارة إلى عجز الإيرادات البترولية المتوقعة عن الوصول إلى نقطة التوازن بين جانبي الموازنة.
وبخلاف العوامل المالية، برر الوزير قرار تمديد تلك المشروعات كذلك بمحاولة تجنب الضغوط التضخمية الضخمة واختناقات العرض والحاجة إلى فترة أطول لبناء المصانع وبناء موارد بشرية كافية. وأضاف أنه بعد مراجعة الجدول الزمني للمشاريع، فإن بعضها يمكن تأخيرها لمدة ثلاث سنوات، وبعضها حتى عام 2035، وأخرى أبعد من ذلك، وسيجري ترشيد بعضها.
ووفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، ستحتاج السعودية إلى سعر نفط يقترب من 86 دولاراً للبرميل لتحقيق التوازن في ميزانيتها، وهو سعر أعلى من متوسطه هذا العام، وإذا أضيفت النفقات من قبل الكيانات ذات الصلة بالحكومة، مثل صندوق الثروة السيادية السعودي، فمن المرجح أن يرتفع معدل التوازن إلى 110 دولارات في النصف الثاني من هذا العام.
ولعلّ ذلك يؤكد أن تأخير التنفيذ في المشروعات يرجع في الأساس إلى الضغوط المالية المتصاعدة التي تحملتها موازنة المملكة خلال الفترة الماضية جراء الإنفاق المحموم على تلك المشروعات، التي تحتاج إلى سنوات طوال حتى تبدأ مرحلة جني عوائدها المالية.
"نيوم" و"روشن" في مقدمة المشروعات الكبرى
خلال الفترة الأخيرة توالت التقارير التي تتحدث عن تعثر المشروعات السعودية الكبرى ورُوِّج لها وفق رؤية 2030، والتي تضم مشروع نيوم، الذي يقع في شمال غرب المملكة على البحر الأحمر، ومشروع البحر الأحمر الذي يغطي مساحة قدرها 28 ألف كيلومتر مربع على الساحل الغربي للمملكة، ومشروع روشن الذي يهدف إلى تطوير أحياء سكنية بمعايير عالية الجودة، ومشروع القدية، وهي العاصمة المستقبلية للترفيه والرياضة والفنون، حيث ستصبح وجهة عالمية فريدة تقدم تجارب مبتكرة وغامرة في مجالات الترفيه والرياضة والفنون، كما تقول الحكومة السعودية، وأخيراً مشروع مدينة الدرعية التي من المستهدف أن تصبح العاصمة الثقافية للمملكة، وتسلط الضوء على أكثر من 300 عام من الثقافة والتاريخ الأصيل.
في الحقيقة، لم تنشر دراسات جدوى كافية لتلك المشروعات، وأنفقت مئات الملايين من الدولارات على إعادة رسم الصورة الذهنية للمملكة في ثوبها الترفيهي المستحدث، ولكن عوائد النفط لم تكن كافية لتحقيق الطموحات، وبدأت التقارير تبرز بتوقف بعض المشروعات وتأخير التنفيذ في بعضها الآخر، وقد بدأ ذلك منذ عام 2020 حينما نشرت قناة الجزيرة صوراً فضائية تظهر تعثر الخطط الزمنية لمشروع مدينة "نيوم" الذي يتكون من 12 مدينة حديثة بمقاييس عالمية، والذي كان من المفترض أن تظهر أولى مدنه (ريفيرا) عام 2020، لكنها لم تظهر حتى الآن.
وفقاً لوكالة بلومبيرغ الاقتصادية الأميركية، فإنه بحلول عام 2030، كانت السعودية تأمل أن يكون هناك 1.5 مليون ساكن يعيشون في "ذا لاين"، وهي مدينة مستقبلية تسعى لبنائها بين زوج من ناطحات السحاب المكسوة بالمرايا، لكن المسؤولين الآن يتوقعون أن تستوعب المدينة أقل من 300 ألف ساكن بحلول ذلك الوقت.
وكان من المخطط لمشروع "ذا لاين" أن يغطي في النهاية مساحة بطول 170 كيلومتراً على طول الساحل، لكن وفق المعطيات الأخيرة، يتوقع المسؤولون إكمال 2.4 كيلومتر فقط من المشروع بحلول عام 2030، ونتيجة لذلك، بدأ المقاولون بتسريح عدد من العمال الذين يوظفونهم في الموقع.
اضطرار السعودية إلى الاقتراض
تحت وطأة تمويل المشروعات الكبرى وعدم حدوث قفزة في أسعار البترول إلى الحد الذي يحقق على الأقل توازن الموازنة العامة للدولة، علاوة على عدم تحقيق المستهدف من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، الذي كان من المستهدف أن يبلغ 100 مليار دولار في العام الماضي، ومثلها في الأعوام التالية، ولكن الرقم لم يتخطَّ 33 مليار دولار فقط، بالإضافة إلى انخفاض التدفقات النقدية الداخلة إلى الصندوق السيادي السعودي (صندوق الاستثمارات العامة)، الذي يعاني بسبب قلة الأصول العامة التي يمكن تحويلها، وربما يفسر ذلك الاضطرار إلى بيع حصص من العملاق النفطي أرامكو، وكذلك توالى الاقتراض من الخارج عبر طرح سندات دولية.
وقد باع صندوق الاستثمارات العامة بالفعل سندات بقيمة 7 مليارات دولار منذ بداية سنة 2024، وبدأت المملكة ببيع السندات منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2016 عندما باعت ما قيمته 17.5 مليار دولار.
وأعلن المركز الوطني لإدارة الدين في السعودية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي انتهاءه من ترتيب قرض دولي مجمّع بلغت قيمته 11 مليار دولار، يأتي ترتيب هذا القرض لفترة تمتد 10 سنوات، وبمشاركة 14 مؤسسة مالية دولية متوزعة في أنحاء العالم من آسيا والشرق الأوسط وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
وفي يناير/ كانون الثاني الماضي ذكرت نشرة آي آر إف المعنية بتغطية أسواق رأس المال، أن السعودية تعتزم طرق أبواب أسواق الدين من جديد، من خلال بيع سندات ذات حجم قياسي على 3 شرائح لآجال 6 و10 سنوات و30 سنة، وأضافت أن المملكة حددت أسعاراً استرشادية مبدئية للشرائح الثلاث عند نحو 115 و135 و195 نقطة أساس على الترتيب فوق سندات الخزانة الأميركية.
من الواضح أنّ هذا الانزلاق نحو الاقتراض الخارجي المتوالي لأحد أكبر مصدّري النفط في العالم كان نتاجاً لأخطاء كبيرة في جدوى مشروعات رؤية 2030، وقد أحسنت الإدارة السعودية بإعلانها تخفيض وتيرة التنفيذ والتأجيل لبعض المشروعات، ولكن من المهم بالتوازي مع ذلك تبني رؤية اقتصادية جديدة تدرس بصورة متأنية من خلال بيوت خبرة تتمتع بالمصداقية والشفافية ويراجعها المخلصون من المتخصصين السعوديين قبل إقرارها.
وبصفة عامة، وعلى الرغم من توالي تلك القروض، من المؤكد أن اقتصاد المملكة لم ينزلق إلى مرحلة الخطر، فديون المملكة تشكل فقط نحو 26.5% من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية عام 2023 (مقارنة بـ 65% في ألمانيا، و112% في فرنسا)، ولا تزال الموازنة السعودية تتمتع بمساحات واسعة من إمكانية المناورة بخفض النفقات، تدعمها احتمالات متزايدة لأسعار نفط مستقرة على الأقل، وربما متزايدة، في ظل تزايد المخاطر الجيوسياسية حول العالم وزيادة الطلب على الخام الأسود، الأمر الذي يعني باختصار أن مخاطر الديون على المملكة لا تزال في النطاق المحسوب والآمن، لكن من المهم جداً التحسب للقادم.