يشهد القطاع العقاري في كل من مصر وتركيا نمواً متسارعاً خلال السنوات الماضية، وبمعدل كبير يفوق أغلب القطاعات الاقتصادية، وهو ما جعل الوزن النسبي لمساهمة القطاع في الناتج المحلي الاجمالي لمصر يقارب نحو 16% تحت مسمي الأنشطة العقارية والتشييد والبناء، وهي نفس المساهمة تقريباً في الناتج المحلي التركي.
ويقوم القطاع العقاري بدور المحرك الرئيس داخل الاقتصادين المصري والتركي حيث يساهم بنسبة كبيرة في معدلات النمو، وبالتالي خلق فرص العمل، علاوة على تشغيله لأكثر من مائة صناعة تابعة.
وكنتيجة لهذه الأهمية الكبيرة لجأت الدولتين إلى إطلاق مبادرتين للتنشيط العقاري في محاولة لضخ السيولة للقطاع وتنشيط القطاعات التابعة له وللمحافظة على العمالة في ظل التداعيات الاقتصادية السلبية لانتشار فيروس كورونا، ولكن يبدو أن هناك اختلافاً جوهرياً بين المبادرتين.
قروض بأقل من 1%
بعد أقل من ثلاثة أشهر من اندلاع الجائحة، وفي مطلع يونيو/حزيران من العام الماضي دشنت بعض البنوك الحكومية التركية وبرعاية من الدولة حملة لتمويل شراء عقارات بنسبة فائدة أقل من الواحد في المائة، وتقرر أن يكون أقصى قيمة تقدمها البنوك في المدن الثلاث الكبرى (إسطنبول، أنقرة، أزمير) هو 750 ألف ليرة، أما باقي المدن فيكون الحد الأقصى للقرض 500 ألف ليرة.
كما تقرر أن تصل مدة السداد إلى 15 عاما، بمعدل فائدة 0.64% (للعقارات التي تُملك للمرة الأولى)، ومعدل 0.74% (للعقارات التي سبق تملكها)، مع إمكان عدم دفع أي أقساط خلال السنة الأولى من الحصول على القرض.
وأثمرت المبادرة العقارية التركية عن تحقيق رقم قياسي في مبيعات العقارات، حيث ارتفعت مبيعات المنازل في تركيا بنسبة 11.2% خلال عام 2020 مقارنة بالعام السابق، ووصل عدد المنازل التي بيعت إلى مليون و499 ألفا و316، وبلغت نسبة مبيعات المنازل الجديدة 31.3%، في حين ارتفع معدل مبيعات المنازل القديمة إلى 68.7% ليصل الي مليون و29 ألفا.
قروض تصل إلى 30 سنة
أطلقت مصر في منتصف مارس الحالي "مبادرة التمويل العقاري 2021" لدعم قدرة محدودي ومتوسطي الدخل على تملك الوحدات السكنية، بقروض طويلة الأجل تصل إلى 30 سنة وبفائدة منخفضة لا تتعدى 3%، متناقصة، ما يعني أن المستفيد من المبادرة سيدفع فقط الفائدة على المبالغ المتبقية عليه مع خصم المبالغ المسددة، كما حدد مبلغ تمويل المبادرة بحوالي 100 مليار جنيه كحد أقصى.
وطبقاً لتصريحات نائب محافظ البنك المركزي، جمال نجم، فإنه يشترط لفئة محدودي الدخل للاستفادة من المبادرة ألا يزيد الدخل الشهري على 4 آلاف جنيه للأعزب أو 6 آلاف جنيه للأسرة الواحدة، وألا تزيد قيمة الوحدة السكنية التي سيجري شراؤها عن 350 ألف جنيه. بينما يشترط ألا يزيد الدخل الشهري لفئة متوسطي الدخل على 10 آلاف جنيه للأعزب و16 ألف جنيه للأسرة، وألا تزيد قيمة الوحدة السكنية على مليون جنيه. كما أنه يشترط كذلك أن تكون الشقة كاملة التشطيب وبها جميع المرافق، وقابلة للتسجيل.
الاختلاف بين المبادرتين
لا شك أن كلتا المبادرتين ستدعمان القطاع العقاري في البلدين، كما ستحركان الأنشطة الواسعة المرتبطة به، ورغم تشابه المبادرتين، الا أن ثمة فروقاً جوهرية بينهما شكلاً ومضمونا، بالإضافة إلى اختلاف البيئة الحاضنة لكل منهما، مما سيؤثر ولا شك على تحقيقهما للنتائج المرجوة.
بداية فقد أطلقت الحكومة المصرية مبادرتها بعد عام كامل من نظيرتها التركية، وهو ما يعكس مدى سرعة الاستجابة لمستجدات ظرف كورونا بين كلا الطرفين، كما أن المبادرة التركية أطلقت بشكل متكامل، ومن اليوم الأول للإعلان عنها رأينا طوابير المواطنين المصطفة على أبواب المصارف المشتركة في المبادرة، وفي المقابل أطلقت المبادرة المصرية كعنوان رئيسي في الإعلام، ثم اعلنت التفاصيل على دفعات بعد ذلك.
وفي الحقيقة لا أجد مبرراً لهذا الاعلان الجزئي المتسرع، وكان من الأجدى تأجيل المبادرة المصرية لأسبوع أو أكثر حتى يتم اعلانها بشكل متكامل، ولكن من الواضح أن هذا أصبح نهجاً مصرياً، فقرار ايقاف تراخيص المباني مستمر منذ أكثر من ستة أشهر، انتظاراً لانتهاء دراسات الحكومة حول الشروط، وهو التأخير الذي أصاب القطاع العقاري وعامليه بالبطالة طيلة الفترة السابقة.
كما أن المبادرة التركية اشترك فيها ثلاثة بنوك مملوكة للدولة، ستتحمل سعر الفائدة المنخفض أقل من 1%، بينما أعلن 20 بنكا مصريا المشاركة في المبادرة، معظمهم من القطاع الخاص، بما يعني أن البنك المركزي والموازنة العامة للدولة ستتحمل الفرق بين سعر الفائدة للمبادرة 3% وبين سعرها السوقي الذي يتجاوز 10%، وذلك بالقياس علي مبادرات سابقة، وكذلك كان من الممكن للموازنة العامة المصرية المأزومة أن تتخلص من عبء جديد بمشاركة البنوك الحكومية الثلاثة فقط وهي بنوك الأهلي المصري ومصر والقاهرة.
كما أن تفريق المبادرة المصرية بين فئات المستفيدين من المبادرة ما بين محدود ومتوسط الدخل، ثم إلى الحد الأقصى من الدخل للفرد وللأسرة، فيه الكثير من العنت والمشقة في إثبات الدخل خاصة لأولئك الذين يعملون في القطاع الخاص، ويفتح باباً للتلاعب، علاوة على غلاف المن والأذى الذي توجهه الإدارة المصرية لتلك الطبقات مع أي مبادرة مماثلة.
ويمكن القول إن نص المبادرة التركية على حد أقصي لسعر الشقة ووضع فرق في السعر بين المدن وبعضها، وفتح المجال لمن يرغب في الاستفادة من جميع طبقات الشعب، فيه الكثير من التوسعة لأعداد المستفيدين بما يحقق المستهدف من المبادرة ذاتها، وهو الأمر الذي كان يجب أن يراعيه الجانب المصري، لا سيما في ظل أزمة الركود الطاحنة التي يمر بها الاقتصاد، علاوة على الأزمة الداخلية للأفراد التي نتجت عن تعويم الجنيه في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
تأتي المبادرة التركية في ظل توجه عام للدولة بالاهتمام بالنشاط العقاري، وتصدير العقارات للأجانب، ودشن لذلك قانون الحصول على الجنسية من خلال هذا الشراء، ومجموعة من القوانين التنظيمية التي تيسر نقل الملكية وتسجيل العقار الذي لا يستغرق الا يوما واحدا فقط تقريبا.
في المقابل، أتت المبادرة المصرية خلف كوارث قانون المصالحة في مخالفات البناء، وقانون التسجيل في الشهر العقاري، واللذين تأجلا مؤخراً بدون حل للمشكلة، لتبقي المساكن المصرية بدون قاعدة بيانات معروفة، وبدون طرق تسجيل مضمونة، بما يقلل من أهمية قانون الجنسية المصري للمستثمر العقاري الأجنبي، وربما يؤثر سلباً علي المقبلين على المبادرة في ظل تخوفهم من عودة مثل هذه القوانين.
المبادرات ليست وجبات سريعة
لم يكن الاستعراض السابق للفروق ما بين المبادرتين من قبيل التركيز على السلبيات وابرازها، وانما هدف وكما هو حال المقارنات دائما إلى نقل الخبرات والسياسات والإجراءات ليستفيد منها صناع القرار بما يحقق مصالح الشعوب.
فمن الواضح أن المبادرة التركية درست بعناية أكثر رغم سرعة إصدارها، وأعدت بيئتها الحاضنة من قوانين وتشريعات وقواعد بيانات وغير ذلك عبر تراكم زمني، بينما أعدت المبادرة المصرية وكما اعتدنا بدون دراسات كافية، وبدون بيئة حاضنة، وربما أميل كثيرا أنها هدفت أولاً للتخلص من الوحدات السكنية التي بنتها الدولة ولا تجد من يشتريها، خاصة بعد التصريحات الرسمية بأن تلك الوحدات لن تحتاج إلى التسجيل الرسمي الذي أجل مؤقتاً.
أي مبادرة تقلل الأعباء على المواطنين وتقدم المسكن بأسعار مناسبة وعلى أقساط تناسب الدخول، ولمدد زمنية طويلة، هي محل تشجيع وإشادة، حتي وإن فاتتها بعض الإجراءات التي يمكن تداركها لاحقاً، وستتعدى نتائجها حدود القطاع العقاري إلى الصناعات المرتبطة به، وهو ما سيعمل على ضخ السيولة داخل الشرايين الاقتصادية وامتصاص جزء معتبر من تداعيات كورونا.