عن الشفافية المفقودة في مصر

18 اغسطس 2021
بنك الاستثمار القومي من أهم أدوات تمويل مشاريع التنمية بمصر (فرانس برس)
+ الخط -

يوم الاثنين الماضي وصلتني على بريدي الإلكتروني النشرة اليومية التي تنقل لي أهم الأخبار الخاصة بمصر، وكان الخبر الرئيسي في ذلك اليوم عن "قرار الحكومة المصرية بتصفية بنك الاستثمار القومي".

وبنك الاستثمار القومي هو بنك غير تجاري، يقول موقعه على الإنترنت إنه تأسس بموجب القانون 119 لسنة 1980 بغرض تمويل كافة المشروعات المدرجة بالخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة، وذلك عن طريق الإسهام في رؤوس أموال تلك المشروعات، أو عن طريق مدها بالقروض أو غير ذلك من الوسائل، ومتابعة تنفيذ تلك المشروعات.

ويُعد البنك أحد أهم الأذرع الاقتصادية والاستثمارية للدولة لتنفيذ خططها للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويرى كثيرون أنه ساهم في إنشاء بنية أساسية ضخمة في العديد من القطاعات، ساعدت على إضافة طاقات إنتاجية هائلة، وأدت إلى جذب المزيد من الاستثمارات وتحقيق معدلات نمو عالية على مدى العقود الأربعة الأخيرة.

وقالت النشرة اليومية، عالية المصداقية، والتي ترعاها في كثير من الأحيان بنوك ومؤسسات مالية ضخمة تعمل في مصر، إن الأشهر المقبلة ربما تشهد "مزيداً" من الخطوات لتصفية بنك الاستثمار القومي "بشكل كامل"، مؤكدة أن تلك المعلومات جاءت في خطة الحكومة التي تم الكشف عنها في وثائق صندوق النقد الخاصة بالمراجعة الأخيرة التي أجريت ضمن برنامج الاستعداد الائتماني، وباتت الحكومة المصرية بعده مؤهلة للحصول على الدفعة الأخيرة من قرض الصندوق الأخير.
وكشفت النشرة أن الوثائق المشار إليها أكدت أن الحكومة المصرية استقرت على تصفية بنك الاستثمار القومي، وأنها أوقفت جميع أنشطة الإقراض وتلقي الودائع في يناير/ كانون الثاني 2021، وأن البنك يتخارج حاليًا من حصصه بشركاته التابعة.

وقالت مصادر النشرة إن البنك يعمل على إبرام صفقات التخارج خلال مدة زمنية لن تقل عن عام ونصف، مشيرةً إلى أن مقترح التصفية مقترح مصري وخطة وضعتها الحكومة وتم إبلاغ الصندوق بشأنها.
بعد ذلك بيومين، قال موقع جريدة اليوم السابع المقربة من النظام المصري إن المركز الاعلامي لمجلس الوزراء تواصل مع بنك الاستثمار القومي، وكأنه جهة غير تابعة له، وإن الأخير نفى تلك الأنباء، مُؤكداً أنه لا صحة لاعتزام الدولة تصفية البنك، ومُشدداً على أنه جارٍ العمل على تنفيذ خطة لإعادة هيكلته تتماشى مع الإصلاحات الهيكلية للاقتصاد المصري، وهي خطة وضعتها اللجنة المسؤولة عن إعادة الهيكلة تضم عدداً من الخبراء والمتخصصين بما يتوافق مع دوره ومتطلباته في المرحلة القادمة، مع العمل على تنمية وتعظيم قيمة أصول البنك بما يمكنه من القيام بدوره المحوري في الاقتصاد القومي.
لا أعرف كيف يكون هناك تباين بهذا الوضوح في الأخبار، ولماذا تكون مصادرنا لأخبار بتلك الأهمية هي أولاً صندوق النقد الدولي، ليضطر بعدها مجلس الوزراء للرد، ولا أعرف إذا كانت أمور مثل تلك لا يتم مناقشتها في مجلس النواب، ولا يتم إعلانها على الشعب، فكيف يكون لهذا المجلس دور، ومتى يقوم به. وشخصياً أثق بأن الخبر الذي جاء في تقارير صندوق النقد هو الأقرب للتحقق، خاصةً وأنه ما زال موجوداً على موقع النشرة، وبعد مرور أسبوع كامل على نفيه بصورة رسمية.

نفس الأمر يسري على العاصمة الإدارية الجديدة، التي لا نعرف مصادر تمويلها، والتي يصر المسؤولون، وأولهم السيسي، على أنها لم تكلّف ميزانية الدولة جنيهاً واحداً، والتي سمعنا منه خبر "طرحها في البورصة خلال العامين المقبلين" مطلع هذا الأسبوع.

وأتمنى من كل قلبي أن نعرف قبل اتخاذ القرار لمن ستؤول حصيلة الطرح، عاماً كان أو خاصاً، إذا كانت ميزانية الدولة لم تتحمل جنيهاً واحداً فيها بالفعل.
نفس هذا القدر من الغموض يسري على العديد من المشروعات الضخمة التي تديرها الدولة، وأهمها بالتأكيد ما أُطلق عليه بالخطأ اسم "صندوق مصر السيادي"، الذي يتم نقل أصول بمليارات الجنيهات إليه، دون أن تُعرض على مجلس النواب، أو تخضع لأي نوع من أنواع الرقابة قبل أو بعد النقل.
ويسري الأمر نفسه على صندوق تحيا مصر، الذي جعل السيسي من نفسه الرقيب الأوحد عليه، وأعفاه من كافة أشكال الرقابة والمراجعة والمحاسبة، بصورة لا مثيل لها في أي دولة في العالم في القرن الحادي والعشرين، وهذا أيضاً بخلاف ميزانية وزارة الدفاع، التي لا يعرف أحد عنها شيئاً، ويتحجج في ذلك المنتفعون بأن هذا يندرج تحت عنوان الأمن القومي، وهو ما لا يحدث في أي مكان في العالم، باستثناء الدول المحكومة بعائلات وتغيب عنها المجالس المنتخبة في شرقنا الأوسط العظيم.
هذا النوع من التعتيم، ولو افترضنا أنه منقى من أي شائبة فساد، فإنه لا يعكس إلا استخفافاً بالشعب المصري، وإنكاراً لحقه في الرقابة على المسؤولين ومحاسبتهم، ورغبة السلطة الحاكمة في الانفراد بالقرار في أمور تمس حياة الملايين وتؤثر في دخولهم ومستوى معيشتهم لسنوات، بل وربما، لعقود قادمة.

ويقول الدكتور محمود وهبة، أستاذ الاقتصاد ورجل الأعمال المصري الأميركي الشهير، إن مصر فيها حالياً ثلاث ميزانيات، واحدة منها معلنة، والثانية والثالثة مجهولتان، إحداهما تخص وزارة الدفاع، والأخرى تخص المشروعات والصناديق الكبرى التي تحجب الحكومة أرقامها عن المواطنين!.

تقول وثائق صندوق النقد الخاصة بالمراجعة الأخيرة، والمنشورة على موقع الصندوق على الإنترنت "وتهدف خطة الإصلاح الهيكلي الوطنية التي وضعتها السلطات إلى تحقيق نمو قوي يقوده القطاع الخاص لخلق فرص التشغيل الدائم وتحسين الصلابة الخارجية. وسيتطلب هذا جهوداً مستمرة لتحسين توزيع الموارد عن طريق تقليص دور الدولة في الاقتصاد، وتعزيز الحوكمة والشفافية، وتحسين بيئة الأعمال، ...".

وتكررت نصائح مسؤولي الصندوق الخاصة بالشفافية ثلاث مرات في ملخص التقرير الأخير، إلا أن خبرتنا في التعامل مع الصندوق تجعلنا لا نتوقف كثيراً أمام تلك النصائح، ويقول الإمام الشافعي "ما حك جلدك مثل ظفرك، فتول أنت جميع أمرك".

المساهمون