عندما تغادر مطار جون كنيدي الأميركي متجها إلى وسط مدينة نيويورك تقع عينك على المباني الشاهقة وناطحات السحاب والمراكز التجارية والفنادق ومحطات القطارات والطرق الواسعة التي تحيط بك من كل جانب حتى إنك تتخيل أن الشعب الأميركي هو مجموعة من كبار الأثرياء.
وأن كل أميركي يمتلك بناية تدر عليه عوائد ضخمة شهريا، أو يملك حصة في فندق 5 نجوم، أو لديه أسهم في شركة استثمارية، أو على الأقل مضارب في البورصة، ولديه رصيد كبير في أحد البنوك يكفيه طوال العمر، وفي أضعف الأحوال يعمل في بنك أو شركة مالية.
لكن عند وصولك إلى شوارع المدينة المالية الأولى في العالم تفاجأ بما هو تحت سطح الجليد، حيث الجياع، خاصة بين الأطفال والمسنين، والفقراء والمشردين والغلاء وكثرة الشباب الباحثين عن فرصة عمل.
وعندما تغوص أكثر وسط المجتمع الأميركي تجد ظواهر خطيرة، منها انعدام الأمن الغذائي والطبقية البغيضة والعنصرية ضد السود، بما فيها الوظائف والسكن والتعليم وفرص العمل المتاحة، أو حتى في القروض والتسهيلات المصرفية الممنوحة من البنوك.
يظل فقراء الولايات المتحدة أكثر حظا من نظرائهم في الدول العربية الذين يعانون الاهمال الحكومي والتضييق على العمل الخيري
ليس التشرد والتسول فقط هما من يسكنان شوارع نيويورك الفارهة كما قلت في مقال سابق، بل الغلاء أيضا، فزيادة تكلفة المعيشة أهم ما يميز المدينة الفخمة، وأجرة تاكسي أوبر تستقله من مطار جون كيندي إلى وسط نيويورك قد تكلفك أكثر من 130 دولارا، وقد يقفز الرقم في حال هطول الأمطار.
وإجراء فحص كورونا لأغراض السفر PCR قد يكلفك 389 دولارا، وتناول وجبة طعام في مطعم متوسط الحال تكلف 100 دولار، إضافة الى غلاء تكلفة الفنادق والمواصلات ودخول الأماكن العامة من متاحف ومسارح وحدائق حيوان وغيرها.
دعك من غلاء نيويورك، فزيارة سريعة لمدن أميركية أخرى تلحظ أن الجوع هو أكبر مشكلة عاني منها، ولا يزال، ملايين الأميركيين خلال أزمة كورونا، وأن هناك أكثر من 50 مليون أميركي يعانون من خطر انعدام الامن الغذائي حسب الأرقام، وأن هذه الظاهرة بلغت أعلى مستوى لها في العصر الحديث.
وعندما تتجول في بعض الشوارع والمناطق العشوائية، تجد آلاف الجياع، وبعضنا يذكر الطوابير الطويلة التي اصطفت قبل شهور للحصول على وجبة غذاء مجانية، وأن آلاف السيارات انتشرت لنقل الجياع الذين اصطفوا في طوابير تمتد لأميال في مدينة نيويورك وغيرها من المدن الكبرى، وكذا في أناهايم وكاليفورينا وسان أنطونيو، وتكساس حتى لوليدو، أوهايو، أورلاندو، وفلوريدا.
وكيف أن تلك الطوابير الممتدة لأميال تسببت في ازدحام مروري، وتكدس السيارات، خاصة وأن كل سائق كان ينتظر ساعات للحصول على حقيبة طعام.
بنوك الطعام في الولايات المتحدة ستوزع نحو 6 مليارات وجبة في عام 2021، وهو العدد نفسه تقريباً الذي وزعته عام 2020
وكيف شاهدنا بنوك الطعام والجمعيات الخيرية في جميع أنحاء الولايات المتحدة تعمل ليل نهار وقت أزمة كورونا لتوزيع المزيد من المؤن المعلبة والمغلفة والطازجة، أكثر مما كانت تفعل قبل تفشي الوباء الذي خلّف ملايين الأشخاص العاطلين من العمل، وأنه مع توحش فيروس كورونا، اعتمد ملايين الأميركيين على بنوك الطعام لتفادي شبح الجوع، وأن الأطفال فقدوا فرص الحصول على وجبات مدرسية مجانية.
وبعضنا قد يتذكر رسالة الممثلة الأميركية أنجيلينا جولي، للكونغرس الشهر الماضي، والتي أعربت فيها عن صدمتها من معرفتها بأن أطفالا في بلد مثل الولايات المتحدة يعانون من الجوع جراء إجراءات العزل وتفشي فيروس كورونا، وأن أكبر مؤسسة لمكافحة الجوع في البلاد، وزعت مليارات الوجبات على الجياع.
وأن بيانات منظمة إطعام أميركا (فيدنغ أميركا)، Feeding America، وهي شبكة وطنية تضم معظم بنوك الطعام في الولايات المتحدة، تُظهر أن بنوك الطعام ستوزع نحو 6 مليارات وجبة في عام 2021، وهو العدد نفسه تقريباً الذي وزعته عام 2020، وأنها وزعت أكثر من 4.2 مليارات وجبة في عام 2019.
بالطبع، الجياع في الولايات المتحدة أكثر حظا من نظرائهم العرب، فهناك حكومات أميركية تحرص على محاربة الجوع وتقدم المساعدات النقدية والحزم المالية والحوافز، وهناك بنوك طعام وجمعيات خيرية تقدم الوجبات المجانية للمحتاجين وتدعمها الجهات الرسمية.
أما فقراء الدول العربية فإن حظهم أسوأ بكثير، فلا أحد يسأل عنهم، وإلى جانب حرص بعض الحكومات العربية على محاربة العمل الخيري، بل وملاحقته أمنيا وقانونيا ووسمه بالإرهاب والتطرف، وإيداع القائمين عليه غياهب السجون، فإنهم يحرصون أكثر على تكديس الأموال في حساباتهم المصرفية في بنوك سويسرا ورفدها بملايين الدولارات وربما بالمليارات.